الصفحات

تحسين كرمياني: من أجل سلّة رغيف

إلى /القمر الذي لم تسعه سماء بلدي..(صباح الأنباري).. كنت غالباً ما أكحل عينيّ به كلما أرجع مرهقاً من اتحاد أدباء(ديالى)،أجرجر عربة اليأس لأن لا جديد في حياتنا الجديدة بعد قرن من الانتظار مليء بوعود ـ مسلفنة ـ داخل ثلاجات الديمقراطية، دائماً أراه رغم ـ إرهاق بدنه ـ مليئاً بأحلام ممكنة التحقيق،يمشي وعقله في صراع مع التعب لرسم فضاءات تلاءم أمنياته،قبل أن ينفرد في غرفة أو غربة ليلية يرجع منها محملاً بنص أو مادة نقدية،قليل الكلام هو،كثير الإصغاء،لا يبذر وقته فيما ليس لصالح هواجسه ،منظماً..يتابع أدق التفاصيل الأدبية، وله أرشيفاً لكل أديب جس نبض موهبته ورصد ممكناته في قوادم مغامراته،نذر حياته للفن،صال وجال وهضم بأضراس الحرص ما كان ألمعياً وشاحناً أو وجدها لبنة تنفع لاستكمال سلّم الارتقاء إلى الرفوف العالية في دنيا الحقيقة والجمال،رغم هوسه المسرحي الذي ولد وتماهى فيه قبل أن يحمل لواء حراسته من أقلام مأجورة كانت تزحف لوقف قطار الإبداع العراقي،ناضل رغم الجوع،من أجل تأسيس أرضية تستمد من واقع حال الحياة مادتها،أختار(الصمت)لغة معبرة ومتفجرة وله من التأويل ساحات ومسالك كي يبقى في المحك،ضديّاً لا يساوم على حساب مبدئيته،بهدوء ومن وراء عدسات الكاميرا رصد ما تخفي الوجوه من تذمر واحتجاجات على ما يجري في وضح النهار،وتمكن بقلم رشيق أن يلتقط الحبّات المنفرطة في نصوص تمكنت أن تنفلت من سكة الرتابة والتكرار،غربلها وأعاد تكوينها في مقالات نقدية قالت ما هو محتمل وواقع غير قابل التأويل،وليس أمامنا سوى قراءة كتابه (البناء الدرامي في مسرح محيي الدين زنكنه) لنعرف لكم هو جاد ومتابع وغير مجامل،ظلّ(صباح)يحصي بلهفة الدقائق المتبقية من عمر أعداء الحقيقة وهو يعد العدّة لحياة طاهرة من التزلف والنفاق والتملق والمتاجرة بالشرف والمقامرة بكل ما هو إنساني،حياة تبيح لك القول بما ترغب ،تأخذ ما هو يساوي عطاؤك وتترك ما هو فائض عن حاجتك لآخرين لا يجدون الحيلة لنيل ما يحتاجونه، لكن الرياح دائماً تخالف الرغبات وتأتي من حيث لم تحتسب،وجد نفسه أمام ديناصورات شبحية تعصف بكل ما تبقى من بقايا حياة كانت سلحفاتيه،حياة كارثية أطاحت بأحلام الحالمين وحققت مستحيلات المارقين ودفنت الرغبات المؤجلة لكل من أنتظر على نيران الصبر،ثمة أيدي تعمل في خفاء معلن،مهمتها سحب البسط من تحت أقدام كل من حمل همومه وأنتظر شمس الحرية الغائبة من هذا البلد مذ وضع حمورابي مسلته الطينية ورتب أسس منقذة لبلد خيراته تكفي دفن الجوع العالمي إلى أبد الآبدين،سجن (صباح)في زمن كانت الأشباح تتشكل لتكوين الشرنقة الحديدية حول عباد لا حول تتمفصل في مفاصلهم،ولا قوة تدنوا من سواعدهم،تسعة وثلاثون يوماً ظلّ يستقبل وهو مليء بالتحدي سياط لا ترحم ولكمات لا ترتخي،من أجل المسرح الذي سكنه وأسكنه سويداء القلب،ما الفرق بين كائن يردوه قتيلاً بالرصاص أو الأنشوطة،وكائن يردوه قتيلاً بالرحيل بعدما تسحب من أسفل قدميه كل البسط المفروشة،تغلق النوافذ وتصد الأبواب،لكي يهيم ويتسكع ،يجوع ويعرى،قبل أن ينزوي في ركن خانق،تموت أحلامه ويلعن كل هاجس يقلقه،ومن يجد نفسه مؤهلاً لركوب المخاطر،يركب سفينة الـ(نوح)والبكاء على جذوره المتصدعة،هناك يموت قتيل الاغتراب في المنافي التعيسة،فئة تخطط بشيطانية بالغة الدقة لتمزيق الليل بعد أن يجردوه من كواكبه الهادية،فكل موهوب هو نجم لامع أو ساطع في بلده،بأفوله تتقدم الحياة خطوة أخرى نحو العماء الذي ينشده ظلاّميون يعملون من وراء الكواليس لدحر الحضارات التليدة وتبديلها بحضارات بليدة..تلك هي رسائل مشفرة في قواميس العولمة المفخخة بالدسائس،لقد قتلوا الأحلام وشردوا الرغبات وفككوا مفاصل العلاقات بطرق سلفية وسلبية،فما معنى أن يعود إلى الخدمة كل من كان حجر عثرة في طريق الحرية بطرق ملتوية أو محسوبية أو من منافذ اللانزاهة،وما بال من حمل هموم زمنه وصهر حياته،لم يصفق أو يهتف،ظلّ يهرول صوب كل منفذ يجده درباً معبداً للوصول إلى سلة رغيفه،ليصطدم بجدار صلب لا يرتضيه كل عراقي نبيل أن يتخذه مسلكاً طالما جواز العبور(صك غفران )من لدن قادم لمّا يزل يحاجج أن النهار باطل ما لم يحرر خيطاً في نهايات الليل للتميز،رفض (صباح)التبرك بورقة تزكية تفرش له بساط النعيم،وجدها طوقاً آخر من أطواق الشوفينيات المستحدثة لتسييس وتذليل العقول،هو الذي رفض أن يهدي كتبه كما أهدى البعض للمعرض المادي أبّان الفترة المنقرضة بعدما توجوا (قبلاي)خان العراق راعياً لقطيع المأجورين،فكيف يلوث منجزه المسرحي بعدما صانه من براثن ونواجذ المتربصين والرقابة الغوبلزية للثقافة المتنورة،فما يجري على الساحة الثقافية من مجازر علنية ستدفع البلاد نحو عصور متأخرة ومظلمة ثانية،وبالتالي تكون هويتنا منسية أو غير مؤهلة لتكوين كياناً بين الكيانات،وما عملية تعطيل إرجاع السياسيين إلى وظائفهم سوى محاولة لترحيل الجيل المتنور وتشريده ليندثر من جديد في المنافي،ولأن (صباحاً)كان شجرة مثمرة إلى حدٍ ما،دفعوه إلى حافة النسيان،ليس وحده فحسب،لأنهم يدركون جيداً وراء كل مبدع وحوله رفوف متراصة من مثقفين يجوعون ويبيعون الكتب ولا يغادرون جذورهم كما صرخ في وضح النهار الكاتب الكبير(أحمد خلف)،بطبيعة الحال أنهم يجتهدون لانتزاع الورود من الطبيعة،وطرد الطيور من الحدائق،وإخراج الكائنات البديعة من الأنهار،مختصر مفيد،محاولة صناعة ليالي بلا كواكب ،يقيناً سيفقد الليل طعمه وكذلك الماء والحدائق،فما قيمة بلاد بلا مبدعين،وما قيمة حضارة بلا مسلة تحكي سنوات سطوعها،تؤرقهم مجيء صباحات تكنس أوضار ودسائس العتاة والمارقين،غادرنا (صباح الأنباري)على مضض،لابد أنه لن يتزحزح عن مبادئ رحلة الدفاع عن القيم الثقافية العالية،يقيناً رغم بعده عن جذوره،سيواصل(ارتحالات في ملكوت الصمت)كي يمارس(طقوس صامته )قبل أن يباغتنا(ليلة انفلاق الزمن)..!! **مغادرتك يا(صباح)ولوج أكثر نحو الروح واقتراب منطقي من التوحد وتحقيق الأماني،والوصول بأمان إلى شواطئ الأحلام وأرخبيلات الجمال والحرية والتخلص من رثاثة القرون الفاسدة..!! **ألغوك يا (صباح) وما دروا أنهم رقّوك ..!!‍‍ ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ ‍‍ **فيما يشبه الهامش : صباح الأنباري ـ تولد 1952ـ كاتب وناقد مسرحي ـ أصدر (طقوس صامته) مسرحيات ـ دار الشؤون الثقافية العامة ـ 2000 ( ليلة انفلاق الزمن) مسرحيات صائته ـ اتحاد الكاتب العرب ـ 2001 ( البناء الدرامي في مسرح محيي الدين زنكنة ) نقد ـ دار الشؤون الثقافية العامة ـ2002 (إرتحالات في ملكوت الصمت) مسرحيات صامته ـ دار الشؤون الثقافية العامة ـ 2004 ،له العديد من المؤلفات ذات القيمة الفكرية والإبداعية والنقدية ،ذات يوم سجن وطرد من وظيفته (مدرساً لمادة المسرح الريفي )بسبب مواقفه الرافضة من السلطة وما كان يشتغل عليه من مسرحيات طليعية مناهضة وأنتظر طويلاً قبل أن تهل شمس أمله لكنه تفاجئ وأجبر على الرحيل عن عراقه،حمل لواء الفن الذي يسكنه وقاد عائلته إلى المنافي كي يجد (سلة رغيف) لهم بعدما لم يجد باباً يستقبله كي يمد يديه ويرفع بنيان بلده،لقد خسرته البلاد وستخسر المبدعين الذين اكتووا بنيران التهميش وحرائق عيون الرقابة،لقد غادرنا (صباح)بعدما أرسى لبنة مهمة في حجر أساس المسرح العراقي الصامت ونال العديد من الجوائز المهمة،رحل من أجل سبب بسيط جداً ،لقد أراد(سلة رغيف)متواضعة كي يشعر أنه أبن بلد يستحق التضحية،ومن يدري ربما(سلة رغيفه)نستها عربات الديمقراطية في مكان ما من هذا العالم الفسيح ..!! ***