يدهشنا الشاعر أديب كمال الدين على الدوام، بنشاطه المتواصل على استنطاق الحروف وفكّ مغاليقها وقراءة شفراتها واستدلاله بمعانيها ومراميها وغناها المعرفي في بناء اللغة والفكر والعلم، مبعثراً إياها على بياض الورقة كما اللآلئ المتناثرة، ليعيد صياغتها على هيئة قصائد بالقلائد وحلي من الكلمات تشعّ مؤكداً امتيازه الخاص في كتابة شعرية متفردة عبر تسع مجاميع شعرية على مدار ثلاثين عاماً اتخذت من الحروفية والهيام الصوفي والابتهال الروحي مرجعاً ومنطلقاً وغاية لكتابة قصيدة مغايرة لها نكهة الشعر الحقيقي الذي يلامس الوجدان بصدق وعفوية.
تعد "شجرة الحروف"، حسب تقديري الشخصي وهي المجموعة التاسعة ضمن إصدارات هذا الشاعر، تتويجاً لمنجزه الابداعي الثر، ليحلّق بقصائدها المترعة بالحب والأمل والأسى إلى فضاء الخيال الرحب لأنّ الشعر اساساً اغتراب انحرافي من الموضوعي إلى الخيالي حسب باكون، ممجداً الجمال والخصب والحياة وبالكلمات ذاتها يهجو الخراب والظلام والموت لينتصر للانسان.
السرد
إن ما يلفت الانتباه في هذه المجموعة هو هيمنة البنية السردية على مجمل قصائدها على اعتبار السرد هو خطاب شفاهي أو مكتوب يتولى الاخبار عن حادثة أو سلسلة حوادث ومن مستلزمات السرد الوصف اي عرض الاشياء والشخوص والحدث وهو لب الحكاية، والشخوص أو من يقومون بالافعال ويصنعون الاحداث ثم الحوار وهو كلام متبادل بين اثنين أو اكثر.
الوصف
يقرّ الناقد جيرار جينات في حدود السرد بأن الوصف عنصر ملازم للسرد ولا يمكن تصور بنية سردية من دون وصف. ولنتمعن معاً هذا الإجراء الوصفي في قصيدة (لعبة كبيرة) وقد تقصدت كتابة الجمل والعبارات بصورة افقية لمقتضيات قراءتي. (حين ذهبت إلى ساحل البحر وجدتها تستلقي عارية بفخذين مليئتين بالرغبة وصدر عارم وعينين باتساع البحر، صرت أمرّ أمامها جيئة وذهاباً لسنين لا حصر لهما، ثم نظرت بعيداً لأرى غيماً وسمكة وطفلاً طويلاً يقتربون من المرأة العارية ليأخذوها معهم بكيت طويلاً) (ص103)
ويفتتح الشاعر مجموعته الشعرية بقصيدة اسماها (وصف) تتجلّى فيها بشكل واضح بنية السرد عبر فعل (سقطتْ) (ورأى) على هذه الشاكلة: (سقطت دمعة الشاعر على الورقة فرأى فيها أخـوة يوسـف وهـم يمكرون ويكـذبون ورأى دم الذنب ورأى أبـاه شيخاً وحيداً يتمتم: يا أسفي على يوسف، يا أسفي). (ص7) ويختتم قصيدته بهذه الجملة: (ثم رأى أن يصف المشهد ليس الاّ) (ص9).
الحدث
القصة من دون حدث ليست قصة، فالحدث عمودها الفقري وقصائد أديب كمال الدين تزخر بالأحداث وفي كل قصيدة ثمة حدث يجري أو يقع أو على وشك الوقوع. ففي قصيدة (قصيدة وصف) يرى الشاعر أخوة يوسف يمكرون والموتى ينهضون وموسى يعبر البحر يستغيث. وفي قصيدة (الزائر الاخير) ثمة شاب أنيق يجلس في غرفة مجاورة، يضع على ركبتيه كتاباً وينادي الراوي الشاعرَ ويريه ما في الكتاب: الحقيبة من صور وتماثيل وقصائد. وفي (قصيدتي الجديدة) ثمة حسناء جالسة بجانب الشاعر في الباص يعطيها القصيدة فتتشاغل بحقيبتها الحمراء وثمة طفل يلعب في الحديقة وثمة شرطي يجلد القصيدة بسوط طويل، وفي (قصيدتي الأزلية) يُلقى البطل في الطوفان ويتسلل إلى مركب نوح يشاهد مأثرة الحمامة والغراب، وفي (لعبة كبيرة) امرأة عارية تستلقي على ساحل البحر ثم تختفي فيبكي الراوي وحين يبلغ من العمر عتياً يجد المرأة بكامل لذتها وعريها فيكتشف انها مجرد لعبة كبيرة، وهكذا دواليك مع قصائد أخرى.
الحبكة
في خضم احداث (القصائد) نرى جلياً تنامياً درامياً يتصاعد شيئاً فشيئاً ليصل إلى الذروة وهذا ما يطلق عليه الحبكة ولبيان الأمر اجرائياً (لم أكن ملكاً مثل باقي الملوك، كنت ولم أزل طيباً إلى حد السذاجة، ومرتبكاً أغلب الوقت ، كنت متواضعاً أزرع القمح والعنب مع الفلاحين في الحقول وألعب الشطرنج مع اللاعبين الصغار، ليس لديّ خدم أو خيول أو كلاب. مع ذلك اعتاد شعبي أن يخرج في كل ليلة مطالباً برحيلي. كان ينبغي أن أكون كأبي الملك المهاب، ذاك الذي حرّم التجوال ليلاً لأكثر من خمسين عاماً ومنع الكلاب- كأيّ طاغية- من النباح).
الحوار
يأخذ الحوار حيزاً واسعاً من قصائد "شجرة الحروف". ففي (قصيدتي الجديدة) ثمة حوار بين الشاعر والشرطي:
- ماذا في يدك؟
- قلت: قصيدة جديدة.
- فماذا تقول فيها؟
- قلت: اقرأها لتتعرف على سرّها ومعناها.
وفي قصيدة (ارتباك) يحور الشاعر هذا الحوار:
- قال الشاعر: مَن سيكتب قصيدتي؟
- قال الحرف: أنا.
. - ومن سيطلق أسرارها للناس؟
- قالت النقطة: أنا.
ويطغى الحوار كلياً على قصيدة (ممتع، غريب، مدهش) برمتها منذ الجملة الأولى وانتهاء بالجملة الأخيرة.
الفعل كان
يتكرر مراراً وتكراراً فعل الماضي الناقص(كان) في العديد من قصائد المجموعة، وهو فعل بائد في القصة الحديثة، لكن ضرورات السرد (الشعري) اقتضت حصوله في مواضع عديدة من "شجرة الحروف":
كان يجلس في الغرفة المجاورة ص10
كان نوح يملأ مركبه لوحاً فلوحاً ص19
كان شيخاً جليلاً ص22
كان الأمر خطيراً ص25
كانت طويلة كجهنم ص25
كانت باحة الحلم غامضة ص81
كان قوياً يطير بلون أسود ص 84
كنتُ صبياً بمعنى الكلمة ص 84
كان ينبغي أن أكون ص 118
الشخوص
تزخر قصائد أديب كمال الدين بعشرات الشخوص فهناك الشاعر والمرأة والطفل والأب والشيخ والشاب والشرطي والطبيب والخليفة والملك والقبطان. وكذلك موسى وإبراهيم ويسوع والله والشيطان والجن، ولكل هؤلاء أفعال وأقوال وأحداث ضمن المنظمومة السردية المتعارف عليها في النقد الحديث.
المونولوج
لا تخلو معظم قصائد "شجرة الحروف" من المونولوج الذي هو عبارة عن حوار داخلي تأملي وبعض القصائد اخذت طابعاً مونولوجياً بحتاً كقصيدة (طيران) و(وفؤوس) و(يد واحدة) و(ورسالة الحرف إلى حبيبته النقطة) وهذا مقطع منها:
(حبيبتي
أيتها النقطة
أيتها الحمامة
أيتها الصخرة الملقاة على حافةِ النهر
أيتها الوردة الطيّبة
أيتها الابتسامة اللذيذة كقيمرِالصباح
أيتها الدمعة: اللؤلؤة
كيف أجدكِ الليلة؟ ص 92)
الزمان والمكان
ثمة زمان يتناوب بين الماضي والحاضر والمستقبل وثمة أمكنة تدور فيها الأحداث مثل البحر والنهر والساحل والمركب والبئر والنبع والصحارى والغابات والحدائق والشوارع والعمارات والبيوت.
تداخل الأجناس
لقد بات تداخل الأجناس من المسلمات البديهية في أفق الحداثة والتجريب فالكثير من القصائد أخذت طابعاً قصصياً وتوافرت على عناصر سردية كما في هذه المجموعة قيد الدراسة، والكثير من القصص راحت تنحو منحى شعرياً حتى أمسى من الصعوبة بمكان وضع حدود ما وقياسات جاهزة للنصوص الأدبية كون التعبير في الشكل يؤدي إلى تغيير في الوظيفة كما يؤكد سعيد الغانمي ووظيفة الأدب هي أن يهب المجتمع رؤية خيالية عن الوضع الإنساني كما يذهب نور ثروب فراي، وها هو أديب كمال الدين يتحفنا بنصوصه الأثيرة التي تتسم بالشفافية والسلاسة والكثافة والايجاز ووضوح العبارة وعمق الرؤية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق