عيد سعيد وكل عام وانتم بخير

يتقدم موقع( بعقوبيون ) بالتهنئة للشعب العراقي الصابر على نزيف جراحاته ولكل الادباء والمثقفين والفنانين وجميع ابناء مدينة بعقوبة بمناسبة عيد الفطر المبارك اعاده الله بالخير والسلام على الجميع.

في حوار خاص لبعقوبيون: القاص صلاح زنكنة يتكلم بصراحة مع ضياء السيد كامل

أنا مع ثقافة المواطنة لا مع الخطاب الثقافي المؤدلج
انني انسان عراقي كردي أؤمن بأن الوطن يتسع للجميع
الأدباء العرب ينظرون بريبة وهناك شيء من الحسد للمثقف العراقي
قاص له بصمته الإبداعية وأسلوبه الخاص في كتابته للقصة القصيرة وفي تناوله للمواضيع الاجتماعية والسياسية في العراق فلا تخلو قصة من قصصه من هم من هموم الانس الفقراء وظلم سياسة النظام الشوفيني المقبور تجاه ابناء جلدته ، ولانه كردي فقد كانت هموم الشعب الكردي ونضاله تؤرقه وحملها امانة في قلبه ، كل الذين يعرفونه يعلمون جيدا كم كان مشاكسا للنظام البائد رافضا له ولسياسته وعلى اثر كتاباته ورفضه اعتقل اكثر مرة في مديرية امن ديالى الا ان الحظ او القدر السعيد انقذه من براثن الجلادين مرة تلو الاخرى وبعد سقوط الصنم لم ينقطع عن ممارسة دوره الثقافي والإبداعي، وعلى الرغم من انه يجيد اللغة الكردية الا ان كتاباته باللغة العربية، وهو الآن رئيس اتحاد ادباء ديالى، انه القاص صلاح زنكنة تولد مدينة جلولاء 1959 ، عضو المكتب التنفيذي لمنتدى الشباب 1992-1994 . وشغل منصب رئيس منتدى الادباء الشباب 1990- 1994 . عضو المجلس المركزي لاتحاد الادباء العراقيين 1996- 1998 . رئيس اتحاد الادباء فرع ديالى لدورتين متتاليتين ولحد الآن. قام بنشر كتاباته في معظم الصحف والمجلات العراقية والعربية، عمل محررا للصفحة الثقافية في جريدة الانباء لعامين 2005-2006 . عمل محررا في ملحق جريدة القصة التي تصدر عن اتحاد الادباء العراقيين. عمل مديرا لمكتب قناة دجلة الفضائية في ديالى. شارك في المؤتمرات الثقافية والملتقيات الادبية وجميع ملتقيات القصة داخل العراق. اما حصته من الجوائز، فقد نال جائزة مؤسسة الصدى الاماراتية عن مجموعته القصصية (ثمة حلم ثمة حمى )عام 2002 . اصدر المجموعات القصصية الآتية (كائنات صغيرة ، صوب سماء الاحلام ، ثمة حلم ثمة حمى ، الصمت والصدى ، كائنات الاحلام ) .ولأنه عضو المجلس المركزي في الاتحاد العام للادباء والكتاب في العراق فهو دائب الحضور والمشاركة في الاصبوحات الثقافية والمهرجانات والملتقيات الادبية فأغتنما الفرصة لمحاورته فكان لنا هذا الحوار معه.
* كيف ترى واقع الثقافة العراقية الآن؟ - الثقافة العراقية تمر الآن بأزمات وعقبات ومخاضات كثيرة لكون الواقع السياسي واقعا مرتبكا فيه من الشد والجذب الكثير، ونتيجة الوضع الامني وصل الى حد التوتر والتناحر الذي خلف الاف الضحايا والشهداء والمشردين والمهرجين والايتام والارامل بلا شك هذا ثمن باهض للمثقف العراقي وبسبب التفاعل مع هذا الواقع يكون في مثل هكذا ظروف سوف يعاني المثقف، ولا يعيش في وضع مستقر إذ يؤثر سلبا على الابداع الذي ينتج من هذا المثقف من هذا المنطلق، نحن ننتظر ونأمل من الخيرين بوصول العراق الى ضفاف الامان والحرية والاستقرار. * بعد التغير الشامل الذي حصل في العراق لاسيما الدولة التي تحاول ارساء ثقافة جديدة بدلا من ثقافة النظام الشمولي، كيف تنظر لثقافة الدولة الجديدة، وهل هناك صراع مع ثقافة الشارع ؟
- لا أتصور هناك ثقافة دولة بل كانت ثقافة سلطة متسلطة وسلطوية جائرة ذهبت إلى مزبلة التاريخ ، اما الآن فنحن مع ثقافة المجتمع، الدولة عبارة عن مؤسسات وفي ضمن هذه المؤسسات الثقافية التي تساعد في بناء الدولة الحديثة، اما الخطاب الثقافي المؤدلج فهذا بلا شك كارثة ووبال على المجتمع، كما ان الثقافة يضعها اهل الثقافة الذين يعملون ليلا نهارا يقرؤون -يفكرون - يكتبون- ينظرون- ينتجون.أولئك الذين يحاولون ايصال دمعة ام شهقة طفل الى ابعد مدى، هؤلاء هم المثقفون الحقيقون الذين ينظرون دائما الى المستقبل بأفق رحب وواسع بعيون ممتلئة بالصفاء والنقاء والامل .
* انتم جيل ولد في عدة حروب وعاصرتم ادب الحرب، الى اي مدى كانت تجربتكم ناجحة، وهل أثبتم وجودكم في خوضكم تلك الصراعات ؟ - لا توجد تجربة ناجحة او فاشلة، نحن ابناء المحنة - نحن ابناء الكوارث والموت- وأتصور ان هذا الجيل هو اكثر جيلا يعاني من الامراض النفسية، جيل اكثر انسجاما، وهو جيل اصيب بعوق نفسي، بلا شك استطاع هذا الجيل ان يؤسس ويؤرخ لهذه المرحلة ، هناك فرق بين ادب الحرب وقصائد الحرب والادب الحماسي الذي كتب، وهو لا يحسب على الادب ابداً ، حيث كان عبارة عن فوج اعلامي هم كانوا يساعدون في دفع عجلة الحرب الكارثية الى الامام، وهم يمجدون الدم فهؤلاء لا يحسبون، اما أولئك الذين كتبوا عن معاناة الانسان في محنته وضياعه هؤلاء هم الذين يحسبون على هذا الجيل، وانا اشعر بأن تجربتنا عميقة ومؤلمة وقاسية وانسانية هذا الجيل الذي يسمى احيانا (الجيل الثمانيني) لهم بصمتهم الخاصة في جسد الادب العراقي. * باعتبارك احد القصاصين البارزين، كيف ترى واقع القصة القصيرة في العراق؟
- القصة حالها بقية صنوف الادب، فلها أسماؤها التي استطاعت ان ترسخ وتترك بصمتها، خذ مثلا في جيل الثمانينات كان هناك اكثر من خمسين قاصا الا ان الواقع القصصي لم يترك او يعترف الا بخمسة فقط لا يزالون يبدعون ويكتبون في الساحة الثقافية. * كيف ترى مشاركة وفوز العديد من الادباء العراقيين في مسابقات عربية كبيرة ومهمة؟
- ليس جديدا او غريبا على الادباء العراقيين، فهم دائما يقطعون المسافات ويتجاوزون الاسوار بنصوصهم الى مؤسسات وبلدان اخرى ليثبتوا وجودهم لأن نتاجاتهم رائعة وراقية وحقيقية، فهو بالمحصلة نتاج عراقي اصيل ومهم وذو ملامح وطنية وانسانية ويحمل ملامح الابداع الحقيقي، لهذا ترى في اية مسابقة عربية ان العراقيين يحصدون معظم الجوائز. * هل تعتقد ان الاديب العراقي محارب ومحاصر عربيا؟
- هناك حساسية من الادب العراقي ومن الانسان العراقي، ومن وطنية الانسان العراقي من قبل العرب، العرب ينظرون بريبة، وهناك شيء من الحسد والغيرة كون العراق بلد الحضارات، بلدا تمتد جذوره الى اول التاريخ الانساني، والعراقي كان دائما متقدما وهناك امثلة كثيرة لاتحصى على ما اقول سياسيا واجتماعيا وثقافيا، وهو متقدم على دول عربية كثيرة، وللأسف الشديد نظرة الحسد هذه، واعتقد ان الانسان العراقي اكبر من كل المسميات (العروبة- والوطن العربي- والقومية العربية... الخ) من المسميات، العراقيون انسانيون اكثر مما هم طائفيون او قوميون . * ألا ترى ان المبدع العراقي بحاجة إلى مؤسسات لتصدير ابداعه ونتاجه الادبي؟
- نحن بحاجة الى مؤسسات كثيرة لأننا ما زلنا نفكر بطريقة قبلية قديمة، وما زلنا نحمل ارثا حزبويا او عشائريا بطريقة (انصر اخاك ظالما او مظلوما) للاسف الشديد فنحن اذ نستطيع ان نرسخ ثقافة اخرى، معاناة نعم نحن بحاجة الى مثل هذه المؤسسات كي تخرج من هذه التشرذمات التي تحدث لإيصال المنجز الابداعي العراقي.

بلاسم الضاحي: يا حريمه ...... يا حريمه

ـ 1 ـ عبتا يصلح العطار ما تفسده الحرب فأشعلْ مواقد الندم على شفتين عاجزتين وهشّم الأخطاء عاجلتَ ولادتك قبل بناطيل الجينز وصبايا الصيف فاجلد بياض الشوارب بهراوات الندم وقل ( لسنينك الخمسين ..... ) قل لها ان تنسكب على ذاكرة صدئة حتى ينضجَ جلدها أو تعظّ على لجام العمر برهة قل لها أن تعتذر (لاله أعلى بختك ماني سالوفه صرتْ ) ـ 2 ـ ياحريمه ........ ياحريمه الحرب كانتْ أوّل ربوة أضعتَ عندها متاع العيون ووازنتَ على كتفين من نحولٍ جبلين الحرب كانت أوّل بابٍ أضعتَ عندها مفاتيح الضوء وحفرتَ خلفك بعصا عمياء خنادقَ من ندم طويل الحرب أبقتك لا خلٌ ولا ظلٌ ولا نخلٌ تهز إليك لا قميص تلقي على عينيك الحرب مرت عليك غبارها ، خيولها ، عساكرها وأنتَ تعيدُ قوافل الذكريات من صدر مبطن بالرماد بـأصابع كسولة تتصفح مناياك القديمة الحرب لا جبل عاصم منها غير أن نموت !! نموت ؟؟ يا حريمه ........... يا حريمه ....... ......... ..............

تحسين كرمياني: من أجل سلّة رغيف

إلى /القمر الذي لم تسعه سماء بلدي..(صباح الأنباري).. كنت غالباً ما أكحل عينيّ به كلما أرجع مرهقاً من اتحاد أدباء(ديالى)،أجرجر عربة اليأس لأن لا جديد في حياتنا الجديدة بعد قرن من الانتظار مليء بوعود ـ مسلفنة ـ داخل ثلاجات الديمقراطية، دائماً أراه رغم ـ إرهاق بدنه ـ مليئاً بأحلام ممكنة التحقيق،يمشي وعقله في صراع مع التعب لرسم فضاءات تلاءم أمنياته،قبل أن ينفرد في غرفة أو غربة ليلية يرجع منها محملاً بنص أو مادة نقدية،قليل الكلام هو،كثير الإصغاء،لا يبذر وقته فيما ليس لصالح هواجسه ،منظماً..يتابع أدق التفاصيل الأدبية، وله أرشيفاً لكل أديب جس نبض موهبته ورصد ممكناته في قوادم مغامراته،نذر حياته للفن،صال وجال وهضم بأضراس الحرص ما كان ألمعياً وشاحناً أو وجدها لبنة تنفع لاستكمال سلّم الارتقاء إلى الرفوف العالية في دنيا الحقيقة والجمال،رغم هوسه المسرحي الذي ولد وتماهى فيه قبل أن يحمل لواء حراسته من أقلام مأجورة كانت تزحف لوقف قطار الإبداع العراقي،ناضل رغم الجوع،من أجل تأسيس أرضية تستمد من واقع حال الحياة مادتها،أختار(الصمت)لغة معبرة ومتفجرة وله من التأويل ساحات ومسالك كي يبقى في المحك،ضديّاً لا يساوم على حساب مبدئيته،بهدوء ومن وراء عدسات الكاميرا رصد ما تخفي الوجوه من تذمر واحتجاجات على ما يجري في وضح النهار،وتمكن بقلم رشيق أن يلتقط الحبّات المنفرطة في نصوص تمكنت أن تنفلت من سكة الرتابة والتكرار،غربلها وأعاد تكوينها في مقالات نقدية قالت ما هو محتمل وواقع غير قابل التأويل،وليس أمامنا سوى قراءة كتابه (البناء الدرامي في مسرح محيي الدين زنكنه) لنعرف لكم هو جاد ومتابع وغير مجامل،ظلّ(صباح)يحصي بلهفة الدقائق المتبقية من عمر أعداء الحقيقة وهو يعد العدّة لحياة طاهرة من التزلف والنفاق والتملق والمتاجرة بالشرف والمقامرة بكل ما هو إنساني،حياة تبيح لك القول بما ترغب ،تأخذ ما هو يساوي عطاؤك وتترك ما هو فائض عن حاجتك لآخرين لا يجدون الحيلة لنيل ما يحتاجونه، لكن الرياح دائماً تخالف الرغبات وتأتي من حيث لم تحتسب،وجد نفسه أمام ديناصورات شبحية تعصف بكل ما تبقى من بقايا حياة كانت سلحفاتيه،حياة كارثية أطاحت بأحلام الحالمين وحققت مستحيلات المارقين ودفنت الرغبات المؤجلة لكل من أنتظر على نيران الصبر،ثمة أيدي تعمل في خفاء معلن،مهمتها سحب البسط من تحت أقدام كل من حمل همومه وأنتظر شمس الحرية الغائبة من هذا البلد مذ وضع حمورابي مسلته الطينية ورتب أسس منقذة لبلد خيراته تكفي دفن الجوع العالمي إلى أبد الآبدين،سجن (صباح)في زمن كانت الأشباح تتشكل لتكوين الشرنقة الحديدية حول عباد لا حول تتمفصل في مفاصلهم،ولا قوة تدنوا من سواعدهم،تسعة وثلاثون يوماً ظلّ يستقبل وهو مليء بالتحدي سياط لا ترحم ولكمات لا ترتخي،من أجل المسرح الذي سكنه وأسكنه سويداء القلب،ما الفرق بين كائن يردوه قتيلاً بالرصاص أو الأنشوطة،وكائن يردوه قتيلاً بالرحيل بعدما تسحب من أسفل قدميه كل البسط المفروشة،تغلق النوافذ وتصد الأبواب،لكي يهيم ويتسكع ،يجوع ويعرى،قبل أن ينزوي في ركن خانق،تموت أحلامه ويلعن كل هاجس يقلقه،ومن يجد نفسه مؤهلاً لركوب المخاطر،يركب سفينة الـ(نوح)والبكاء على جذوره المتصدعة،هناك يموت قتيل الاغتراب في المنافي التعيسة،فئة تخطط بشيطانية بالغة الدقة لتمزيق الليل بعد أن يجردوه من كواكبه الهادية،فكل موهوب هو نجم لامع أو ساطع في بلده،بأفوله تتقدم الحياة خطوة أخرى نحو العماء الذي ينشده ظلاّميون يعملون من وراء الكواليس لدحر الحضارات التليدة وتبديلها بحضارات بليدة..تلك هي رسائل مشفرة في قواميس العولمة المفخخة بالدسائس،لقد قتلوا الأحلام وشردوا الرغبات وفككوا مفاصل العلاقات بطرق سلفية وسلبية،فما معنى أن يعود إلى الخدمة كل من كان حجر عثرة في طريق الحرية بطرق ملتوية أو محسوبية أو من منافذ اللانزاهة،وما بال من حمل هموم زمنه وصهر حياته،لم يصفق أو يهتف،ظلّ يهرول صوب كل منفذ يجده درباً معبداً للوصول إلى سلة رغيفه،ليصطدم بجدار صلب لا يرتضيه كل عراقي نبيل أن يتخذه مسلكاً طالما جواز العبور(صك غفران )من لدن قادم لمّا يزل يحاجج أن النهار باطل ما لم يحرر خيطاً في نهايات الليل للتميز،رفض (صباح)التبرك بورقة تزكية تفرش له بساط النعيم،وجدها طوقاً آخر من أطواق الشوفينيات المستحدثة لتسييس وتذليل العقول،هو الذي رفض أن يهدي كتبه كما أهدى البعض للمعرض المادي أبّان الفترة المنقرضة بعدما توجوا (قبلاي)خان العراق راعياً لقطيع المأجورين،فكيف يلوث منجزه المسرحي بعدما صانه من براثن ونواجذ المتربصين والرقابة الغوبلزية للثقافة المتنورة،فما يجري على الساحة الثقافية من مجازر علنية ستدفع البلاد نحو عصور متأخرة ومظلمة ثانية،وبالتالي تكون هويتنا منسية أو غير مؤهلة لتكوين كياناً بين الكيانات،وما عملية تعطيل إرجاع السياسيين إلى وظائفهم سوى محاولة لترحيل الجيل المتنور وتشريده ليندثر من جديد في المنافي،ولأن (صباحاً)كان شجرة مثمرة إلى حدٍ ما،دفعوه إلى حافة النسيان،ليس وحده فحسب،لأنهم يدركون جيداً وراء كل مبدع وحوله رفوف متراصة من مثقفين يجوعون ويبيعون الكتب ولا يغادرون جذورهم كما صرخ في وضح النهار الكاتب الكبير(أحمد خلف)،بطبيعة الحال أنهم يجتهدون لانتزاع الورود من الطبيعة،وطرد الطيور من الحدائق،وإخراج الكائنات البديعة من الأنهار،مختصر مفيد،محاولة صناعة ليالي بلا كواكب ،يقيناً سيفقد الليل طعمه وكذلك الماء والحدائق،فما قيمة بلاد بلا مبدعين،وما قيمة حضارة بلا مسلة تحكي سنوات سطوعها،تؤرقهم مجيء صباحات تكنس أوضار ودسائس العتاة والمارقين،غادرنا (صباح الأنباري)على مضض،لابد أنه لن يتزحزح عن مبادئ رحلة الدفاع عن القيم الثقافية العالية،يقيناً رغم بعده عن جذوره،سيواصل(ارتحالات في ملكوت الصمت)كي يمارس(طقوس صامته )قبل أن يباغتنا(ليلة انفلاق الزمن)..!! **مغادرتك يا(صباح)ولوج أكثر نحو الروح واقتراب منطقي من التوحد وتحقيق الأماني،والوصول بأمان إلى شواطئ الأحلام وأرخبيلات الجمال والحرية والتخلص من رثاثة القرون الفاسدة..!! **ألغوك يا (صباح) وما دروا أنهم رقّوك ..!!‍‍ ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ ‍‍ **فيما يشبه الهامش : صباح الأنباري ـ تولد 1952ـ كاتب وناقد مسرحي ـ أصدر (طقوس صامته) مسرحيات ـ دار الشؤون الثقافية العامة ـ 2000 ( ليلة انفلاق الزمن) مسرحيات صائته ـ اتحاد الكاتب العرب ـ 2001 ( البناء الدرامي في مسرح محيي الدين زنكنة ) نقد ـ دار الشؤون الثقافية العامة ـ2002 (إرتحالات في ملكوت الصمت) مسرحيات صامته ـ دار الشؤون الثقافية العامة ـ 2004 ،له العديد من المؤلفات ذات القيمة الفكرية والإبداعية والنقدية ،ذات يوم سجن وطرد من وظيفته (مدرساً لمادة المسرح الريفي )بسبب مواقفه الرافضة من السلطة وما كان يشتغل عليه من مسرحيات طليعية مناهضة وأنتظر طويلاً قبل أن تهل شمس أمله لكنه تفاجئ وأجبر على الرحيل عن عراقه،حمل لواء الفن الذي يسكنه وقاد عائلته إلى المنافي كي يجد (سلة رغيف) لهم بعدما لم يجد باباً يستقبله كي يمد يديه ويرفع بنيان بلده،لقد خسرته البلاد وستخسر المبدعين الذين اكتووا بنيران التهميش وحرائق عيون الرقابة،لقد غادرنا (صباح)بعدما أرسى لبنة مهمة في حجر أساس المسرح العراقي الصامت ونال العديد من الجوائز المهمة،رحل من أجل سبب بسيط جداً ،لقد أراد(سلة رغيف)متواضعة كي يشعر أنه أبن بلد يستحق التضحية،ومن يدري ربما(سلة رغيفه)نستها عربات الديمقراطية في مكان ما من هذا العالم الفسيح ..!! ***

سعد محمد رحيم : صورة المثقف مخذولاً وضحية

ليست العلّة في الإيديولوجيا دائما، ولا أحد بإمكانه أن يتحرر كلياً من موجهاتها، ولعل شيئاً منها يعد ضرورياً كي لا نقع أسرى التفكير المجرد البارد وحده. لكن ثمة مثقفين تستعبدهم إيديولوجيا بعينها فيرهنون بقوالبها المتكلسة آراءهم وتصوراتهم وتخريجاتهم الفكرية، يقيّمون العالم وحوادثه في ضوئها، ولا يراجعونها أو يتراجعون عن خطوطها المؤشرة بصرامة حتى وإن قال الواقع والتاريخ وحركة المجتمعات شيئاً مختلفاً. فمن أسوأ السلطات التي تحبس المثقف في دائرة تفكير خانقة، أو تضعه على مسار ضيّق لا يستطيع أن يحيد عنه هي سلطة الإيديولوجيا، حين تشكِّل للذات سياجها الدوغمائي، وتحدد نطاق حركة الفكر واتجاهه. وكان المثقف العربي، قد أوقع نفسه في هذا الفخ مذ بهرته البريق الرومانسي للإيديولوجيات الراديكالية، الشيوعية منها والقومية، ومن ثم الدينية ( الإسلام السياسي )، فراح ينتج خطابه من وحي هذه السلطة/ الإيديولوجيات مروجاً لها وناطقاً باسمها وداعياً إلى الأخذ بها. بدأت الحركات الراديكالية ( القومية والشيوعية ) منذ النصف الأول من القرن العشرين، بأحلام كبيرة متضخمة، بوعود عن عوالم متخيلة زاهية، مشربة برومانتيكية جذابة.. كانت الوعود مبهرة إلى حد أنها تسبب العمى.. تحجب الواقع واتجاه حركته وترسم صورة مضللة بديلة عنه. وعلى الرغم من استنادها إلى مقولات التاريخ والعلم والتطور والتقدمية والصراع الطبقي والقومي والحرية والتمدن والاشتراكية العلمية ( أو العربية ) إلا أنها في حقيقة الأمر كانت ترضي النزعة القدرية عند الجمهور ونخبته، كما لو أن الاجتماعات الصاخبة والاحتفالات والهتافات والشعارات الرنانة باتت مكافئة للطقوس الدينية في المعابد، وكما لو أنها تنطوي على طاقة سحرية ستقلب الدنيا على رؤوس الأعداء، وستحرر الأرض وتنبت الزرع وتقيم المصانع والمؤسسات وتنير المدن والقرى وتحق الحق وتزهق الباطل وتحقق الحرية والعدالة والوحدة المنشودة من غير الحاجة إلى العمل الجاد المضني العقلاني الذي يحوِّل الواقع في ضوء رؤية إستراتيجية تاريخية. وحتى التضحيات الجسام وقوافل الشهداء كانت تؤدي دور القرابين في المذابح المقدسة لإرضاء قوة ميتافيزيقية علوية تسمى تارة ( الحتمية التاريخية ) وتارة ( منطق التاريخ ) وتارة ( إرادة الوطن والأمة ). هكذا من غير الالتفات إلى حقيقة أن الشعب نفسه مسلوب الإرادة ومكبل ويعيش في حالة من التخلف الاقتصادي والثقافي والاجتماعي، وأن التاريخ هو في نهاية المطاف من صنع البشر، وأن الحتمية والضرورة مرتبطتان بالإرادة الفاعلة والتخطيط العقلاني السليم والعمل المنظم والممأسس. كانت نيات كثر من مناضلي الحركات الراديكالية سليمة، وكانت تضحياتهم حقيقية، لكن لا النيات السليمة وحدها تكفي، ولا التضحيات وحدها تجترح المعجزات، لذا صارت هذه التضحيات، في حالات كثيرة هباءً منثوراً، من غير تحقيق شيء ملموس على الأرض.. هنا تحوّل المثقف من حالة النشوة إلى حالة الإحباط..من الأمل الكبير إلى اليأس. ومن الثقة بالعالم والتاريخ والشعب إلى الشعور بالخذلان والخسران. وبدلاً من أن يجعله هذا التحوّل المؤلم يستيقظ راح يصب اللعنات على الإمبريالية ومؤامراتها مرة، وعلى التطبيق الذي لم يرق إلى مستوى النظرية مرة، وعلى الشعب الجاهل بقيمه الموروثة مرة ثالثة. وكأنه نسي أن عمله منذ البدء كان قد بدأ تحت يافطة النضال ضد الإمبريالية والاستعمار والعدو الطبقي والقيم البالية في المجتمع وضد حالة التخلف والتشرذم.. تلك القوى كلها التي هزمته وهزمت مشروعه. وإذا به ينزع عن نفسه، من غير أن يدرك، صورة الطليعي المناضل ليضع بدلاً منها صورة المخذول والضحية.. المخذول الذي تنكّر لأحلامه الواقع الأصم، والضحية التي تشكو غدر الزمان وتقلب الرياح التي لم تهب بما تشتهي سفنها، لتمعن في جلد ذاتها، وتلعن حظها، وتقرّع المقادير وأحوالها والرياح غير المؤاتية. كانت الإيديولوجيا هي صلة الوصل بين المثقف وعالم السياسة. وإذا كان هذا العالم، بمسرحه المعاصر، بحاجة إلى المراوغ البراغماتي المرن والماهر في التكيف مع المتغيرات كان المثقف الإيديولوجي يقسر الواقع في ذهنه ليكون على مقاس الإيديولوجيا. وإذا بالتاريخ ينكل بالإيديولوجيا، يمزق ردائها الضيق ويكشف عن اهترائها، عن محدوديتها وتيبسها. يفقد العقل الإيديولوجي ديناميته واستقلاله، بمرور الوقت، ويتحول محتواه إلى مجموعة من المقولات الجاهزة والمعايير العمياء الجامدة، فتتحدد صحة أو خطأ الأشياء والأفكار وفقاً إليه، على قدر مطابقتها أو مفارقتها مع تلك المقولات والمعايير. إن الإيمان المفرط بالإيديولوجيا يفضي شيئاً فشيئاً، إلى ضعف الصلة بالواقع، وتبلد الحس التاريخي عند المؤمن به. فلا يعود يرى من الواقع سوى الصورة المسطحة الساكنة التي كونتها الإيديولوجيا عنه. وتنفصل حركة التاريخ عن الرؤية التي لن تعود علمية، أو جدلية. أما مفاجآت الواقع والتاريخ، فيما بعد، فلا بد أن تخلق شعوراً عارماً بالمرارة والخذلان. والغريب في الأمر أن بعضهم تأخذهم العزة بالإثم فيستغرقون بالتسويغات غير المقنعة، أو يخطِّئون الواقع والتاريخ بلا حياء، كي لا تًمس معتقداتهم بخدش من أي نوع.. إن هؤلاء محصنون بالضد من المراجعة والنقد وإعادة التقويم. وفي النهاية يتحول المعتقد الإيديولوجي إلى دين جديد، لا يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه، حتى وإن ادعى حاملو المعتقد بأنهم علمانيون أو دياليكتيكيون أو تقدميون. كان الفكر الذي آمن به المثقف العربي الراديكالي ذا صبغة أو بنية دينية، من حيث استنادها إلى مسلمات يقينية مسبقة حتى وإن ارتدت الثوب العلماني، تعيد إنتاج إيديولوجية وُضعت أقلامها وجفت صحفها. والمثقف الذي آمن بالنظرية بشكل أعمى كما لو أنها من وحي سلطة علوية مطلقة قد حوّل نفسه إلى كاهن ( أرثوذكسي ) متزمت من غير أن يفطن، كأنه بصدد مهمة رسولية دقيقة عليه أن يخلص لها بعبودية واستسلام. المثقف المخذول: المثقف المخذول هو المثقف الذي خضع طويلاً لسلطة الإيديولوجيا. وربما لا يكون قد انتمى إلى حزب أو تيار سياسي، لكنه آمن بمنطلقات إيديولوجية شوهت أمامه صورة الواقع وأعطته أفكاراً مضللة عن قواه واتجاهاته وتناقضاته وصراعاته.. إنه المثقف الذي صنع وهمه وصدّقه.. أحل الأمنية والحلم محل الواقع.. رسم صورة زاهية عن مجموعته السياسية، أو عن جماعته البشرية موارياً تناقضاتها ونقاط ضعفها ومشكلاتها التاريخية، ووضع تصوراً ذهنياً ( لا إستراتيجية عقلانية وواقعية ) لصراعات سريعة وحاسمة تطيح بالأعداء الداخليين والخارجيين ( الحقيقين والمفترضين ) وتغير مجرى التاريخ. بالمقابل قاد خذلان المثقف إلى خيبة عند جمهوره الذي تحمس وتظاهر وهتف وصفق، ثم اكتشف أن كل ما حُشر في ذهنه لم يكن سوى حفنة من الأكاذيب والصور الخادعة.. هذا الجمهور نفسه انتهى اليوم، كما يقول أدونيس، ويضيف؛ "وإذا لم يكن قد انتهى فإننا لم نعد نرى منه إلاّ بقايا خائبة، وشبه يائسة". ولكن من أين جاء هذا المثقف؟ شريحة واسعة منهم هم ضحية قراءات مبتسرة، ذات شحنة سحرية تحقن القارئ بالحماس وتوهمه أنها تعطيه الأجوبة كلها دفعة واحدة. ليمتلئ بالغرور فجأةً، معتقداً أنه بات يعرف كل شيء عن الفكر والحياة والكون والماضي والحاضر والمستقبل.. هذا النمط من الثقافة والتثقيف مسؤول، في ظني، عن جفاف ضروع الإبداع الفكري لمدة طويلة عندنا. هذا المثقف، وعلى الرغم من تبجحه بفهم التاريخ وقوانينه إلاّ أنه كان غريباً عن حركة التاريخ.. لم يكن يرى حقيقة تلك الحركة، بل الصورة المتخيلة عنها التي هي نتاج تفسيره ( أو تفسير الآخرين ) الخاطئ، في الغالب، للمنهج والنظرية.. ما كان يريد أن يصدق أن الواقع التاريخي يقول كلمة مغايرة ومختلفة عمّا في رأسه الغارق في الاستيهامات. وواحد من أهم أسباب خذلانه هو فشله منذ البدء، على الرغم من ادعاءاته في ربط الفكر بالممارسة. فلم يستطع أن يجعل من فكره دليل عمل في الممارسة، وأخفق في إغناء فكره وتطويره ونقده في ضوء معطيات التجربة.. كان الواقع أعقد بكثير من رؤيته التبسيطية.. الواقع الذي كان يتخذ في كل مرة مسارات غير متوقعة، وينطوي على مفاجآت. وقد كان فكره، على حد تعبير أدونيس "نبوئياً، نضالياً يُعنى بالإنشاء البلاغي ــ العاطفي، أكثر مما يُعنى بالأشياء والوقائع. كان يتوهم اكثر مما يتأمل. وقد أفقده الواقع ــ في واقعية تطوراته ــ مصداقيته كلها". وقد انساق هذا المثقف المخذول وهو تحت وطأة الشعور بالإحباط والفشل إلى تمثيل نفسه في صورة أخرى، كنوع من التعويض السلبي؛ هي صورة المثقف الضحية. المثقف الضحية: أن نقول عن مثقف ما أنه ضحية، فهو، مثلما توحي العبارة للوهلة الأولى، ضحية سلطة معينة، أو شبكة من السلطات القائمة ( الحكومة، المؤسسة الدينية، المؤسسات الاجتماعية )، دخل معها في مواجهة غير متكافئة فانتهى به الأمر أن يكون ضحيتها، ليتولاه عندئذ شعور أليم بالخسران والظلم. وإذا كان قد اختار المواجهة بمحض إرادته فعليه، منطقياً، أن يقبل بمصيره الذي يجب أن يكون قد توقعه وارتضاه، وليس هذا ما نقصده في هذا المقام. كما لا يعنينا، كذلك، المثقف الذي يكون جزءاً من مؤسسة السلطة ينظِّر لها ويعيد إنتاج إيديولوجيتها ويروّج لخطابها، وإنما الآخر الذي هو خارج إطار تلك السلطة. مع تأكيد أن مؤسسة السلطة لا تشكل المثقف الموالي أو المدمج فقط، بل تمارس تأثيرها حتى على ذاك الذي يواجهها بهذه الدرجة أو تلك. ويمكن للاثنين أن يكونا من الضحايا؛ ذاك الذي اُدمج وامتثل، وذاك الذي جرى إقصاءه. المثقف الضحية، الذي نقصد، هو ضحية أوهامه قبل كل شيء.. ضحية الكذبة التي أطلقها ثم اقتنع بها وصدقها.. إنه ضحية الابتسار والسطحية والاختزال والتشوش في الرؤية.. اختزال ما هو واسع ومركب ومعقد، وتسطيح ما هو عميق ومتعدد الطبقات، ولذا فإن أطناناً مما كان يسمى بأدبيات النضال التي أُنتجت في مراحل المد الراديكالي لم يعد يقربها أحد. لكن هذا المثقف لا يريد الإقرار بأن التوقعات ( توقعاته ) كانت في غير محلها، وكانت التصورات ( تصوراته ) فاسدة وخاطئة. والمتهم دوماً هو السلطة ( السلطات ) الفاعلة. وأحياناً هو؛ الجماهير المتخلفة التي لم تحتضنه وتتبنى أفكاره ومشاريعه بجدية وحتى النهاية، ناهيك عن تلك الذريعة السمجة؛ وجود مؤامرة. ونظرية المؤامرة، في هذا السياق، وبصيغتها التبسيطية الساذجة تحل محل الرؤية الاستراتيجية للقوى الفاعلة في تحالفاتها وصراعاتها في الراهن والمستقبل. فالمثقف، على وفق ذلك التصور ضحية مؤامرة تستهدفه، أو تستهدف الشريحة التي ينتمي إليها. وهو نفسه الذي تجلى هشاشة سلطته التي زعم أنه يمتلكها بعدِّه طليعة للجمهور المسحور بشخصه ورطانة خطابه. إنه ضحية واقع أقوى منه كذلك.. فقد ظهر وكانه ينافس صاحب السلطة ( السياسية ) الذي اضطهده على موقعه. فهو إذ حاول أن يتحول إلى سلطة تتحكم بالواقع فوجئ بسلطات أخرى ظاهرة وخفية، قوى تأثير وتحكم أخرى، تلوي ذراعه وتطيح برهاناته. وتبقى صورة المثقف الضحية تعويضاً بيسيكولوجياً عن صورة المثقف المخذول.. ملجأ بديل للهرب، كما لو أنه يروم محو الصورة الثانية أو تسويغها. لمدة طويلة استهوت صورة المثقف الضحية الجميع.. صار تمثيل المثقف لنفسه معتقلاً، مسجوناً، مقموعاً، منفياً، مقصياً كما لو أنه يمنح هالة من القداسة لهذا المثقف ويجعله مقبولاً جماهيرياً، فيكون موضع ثقتها.. أن تتكلم عن جسدك السجين الذي تعرض للتعذيب، عن جسدك المحبوس في زنزانة، عن جسدك المبعد إلى المنافي، عن جسدك المنكفئ في مكان معزول، الخ. وهناك من لم ينزع رداء الضحية حتى وهو يتبوأ موقعاً في السلطة، جاعلاً منه علامته الفارقة. هذا الشغف بصورة الضحية يعكس نزعة مازوكية، ويعبّر عن شعور مرضي بالاضطهاد. وهو، في النهاية، نوع من الهرب من مواجهة الواقع وعقابيله، واقع الهزائم والخسارات، استدراراً للشفقة.. إن تعزيز صورة الضحية وإعادة إنتاجها يعني الاعتراف، ضمنياً، بالفشل والهزيمة. تستمر صورة المثقف الضحية عبر الأزمنة والأمكنة وتبدل الأحداث والوقائع فيمثل نفسه لا ضحية نظام سياسي أو اجتماعي محدد، وإنما في صورة ضحية أبدية ( أسطورية ) حتى وإن لم يكن هو المثقف المتمرد أبداً..هذه صورة اقتنع بها وارتضاها لنفسه، أي أنها تلك الصورة التي تحقق له رضا وراحة نفسيين. فثمة شريحة من المثقفين لا يرغبون بنزع صورتهم مخذولين وضحايا، وهذا أمر ربما يتجاوز عقدة الشعور بالاضطهاد إلى نوع من المازوكية؛ التلذذ بدور المخذول/ الضحية. فتكون صورته صورة إنسان مهووس، أحياناً، بجلد الذات، إلى جانب إحساس بالدونية حيث يتحول خطابه إلى خطاب رثاء يائس وحزين للذات. هذا المثقف أنتج طوال أكثر من نصف قرن أدب شكوى وبكائيات أكثر مما أنتج أي شكل آخر. والمفارقة أنه يعاني في الوقت نفسه نوعاً من الازدواجية بين شعور طاغ بالضعف والإقصاء وشعور بالنرجسية والانتفاخ، وهي حالة أشبه ما تكون بالعصاب، أو هو عصاب في حقيقة الأمر يستدعي، بالضرورة، الاستلقاء باسترخاء على سرير المحلل النفسي.. ويشير علماء النفس إلى حقيقة أن تأهيل المجرم يكون أحياناً أيسر من تأهيل الضحية. يقتات هذا النمط من المثقفين على إدامة وتعزيز صورة الضحية، لا في داخل النفس فحسب وإنما في محيط المجموعة البشرية التي ينتمون إليها، فيجمعون في تركيبة معقدة كلاً من الرغبات السادية والمازوكية والتي تكون مهرباً من طغيان الشعور بالعجز والخذلان. ويرى ( أريك فروم ) إن هذا الشعور يكون غالباً غير مدرك "تغطيه المشاعر التعويضية عن السمو والكمال". فبين إنكار الاستقلالية الفردية والالتفاف على الشعور بالعجز يستبطن المرء إيديولوجيا الضحية التي تكون بمثابة الضمير التعيس أو السلطة التي يكون هدفها غير المعلن، والرابض في زاوية من منطقة اللاوعي، ربما، هو، مثلما قلنا، إدامة وتعزيز صورة الضحية إلى النهاية.. تلك الصورة التي ستغدو عقبة أكيدة أمام أية فاعلية إيجابية منتجة.. إن تدمير الذات وتدمير العالم هو غاية هذا النمط المهووس بالألم والخراب. ويحدد فروم، أيضاً، هذه الحالة بعبارة؛ "إنني أستطيع أن أهرب من الشعور بعجزي إزاء العالم الذي هو خارجي بتدميره". وأظن أن ثقافة العنف والإرهاب هي من منتجات هذا النمط من المثقفين، يعززونها ويغذونها بالضد من الذات أولاً، وضد العالم بعد ذلك. يُسقط المثقف شعوره كونه ضحية على مجموعته البشرية التي ينتمي إليها، تتلبسه، كما أوضحنا، حالة من مازوكية، سادية مركبة. وهو يستمتع باستمرارية قوافل الشهداء والضحايا. ولنأخذ مثالاً بعض أولئك الذين يتحدثون عن الوضع في العراق على شاشات الفضائيات، وكيف أن علامات الارتياح تبدو على وجوههم وهم يؤكدون أن الحالة الأمنية في البلد متدهورة، وأن هناك ضحايا يتساقطون في كل يوم. ( عنوان برنامج على إحدى الفضائيات الأخبارية العربية الكبيرة قبل أيام عن الوضع العراقي كان "لا نهاية في الأفق" فتأمل ) قد يبدو هذا التخريج غريباً، ولكن، مثلما أعتقد، فهذا البعض يفضِّل أن تكون رؤياه الكارثية صحيحة على أن يقول الواقع شيئاً مختلفاً. فالمهم عندهم ما يعتقدونه، ما يؤمنون به، وليس صور الضحايا. إن أحد أسباب عدم حل القضية الفلسطينية، في ظني، هم هؤلاء الذين يشككون، بكل مبادرة، وبكل حل، وبكل بصيص ضوء في نهاية النفق، لا بل يحاربونها، فقط ليشبعوا غريزة الضحية في دخائلهم. ( من غير أن يعني هذا عدم النظر إلى الحلول أو المبادرات المطروحة، ومعظمها سيئة، بعين فاحصة نقدية ) وهذا ما ينطبق على الوالغين بالثرثرة في القضية العراقية، التي إذا ما تعقدت أكثر، بفضل عوامل كثيرة، ستكون منها نزعات هؤلاء القوم المريضة. وقد حصل، على صعيد الثقافة العراقية والعربية، وإن على استحياء، نوع من المراجعة ومحاولات النقد الذاتي التي طالت المثقف موقعاً ودوراً وفكراً وممارسات. وقد صدمت تقلبات الظروف والأهوال، على مدار العقود الأربعة الأخيرة، بخاصة، المثقفين، فانبرى بعضهم إلى تقريع الذات وجلدها وراح بعض آخر يسعى إلى فهم ما جرى من منظور منهجي وبرؤية متأنية موضوعية، وهؤلاء قلة. فيما ظل بعض ثالث تأخذه العزة بالإثم فلا يرضى أن يقر بالكوارث، وإن تطرق إليها صب جام غضبه على الآخرين، من إمبرياليين وصهاينة وعملاء وخونة ورجعيين ( وقد خف استعمال الاصطلاح الأخير في أدبيات العرب السياسية، تقيةً ربما، بسبب هيمنة أفكار وعصي الإسلام السياسي ). يشير فاضل العزاوي في كتابه ( الروح الحية؛ جيل الستينيات في العراق ) إلى وجود نمطين من اللاعبين هيمنا على الثقافة العربية: "اللاعب الدونكيشوتي الذي كان يقاتل طواحين الهواء، مزهواً بقدرته على تغيير العالم واللاعب الذي كان يعرف أن الأمر يتعلق بلعبة مغشوشة، ولكنه يظل يلعبها حتى النهاية. وحتى إذا افترضنا النية الطيبة والقناعة الفكرية والعاطفة النبيلة وراء تلك الأفعال فإنها لا تقدم لنا أي عزاء، حيث لا شيء في النهاية سوى أكذوبة شاملة وواقع مدجّل". لقد تشكل عربياً، في بقاع شتى من وطننا الكبير من المحيط إلى الخليج، وسط حيوي تواءم وتصالح معه ذلك النمط من المثقف، الذي وصفناه بالمخذول والضحية، على الرغم من أنه يلعن وسطه، في كل يوم، وهذا جزء من اللعبة الملتبسة أيضاً. وخروجه من الوسط ذاك يعني موته مجازاً، فماذا يستطيع أن يفعل في عالم حر، هو الذي تنفس طويلاً دخان عالمه الخانق وتكيفت معه أنسجته وأعضاءه الداخلية وخلايا دماغه، ومن ثم لغته وخطابه؟!!.

إبراهيم الخياط ... جمهورية البرتقال

بين الأسى واستدارة النهر الذبيح كانت خطاي تنبئ بالجفاف وتقرأ سورة الماء المدمّى أيامئذ انتكس القلب مرة وانتكس النهر مراتٍ فلم يبق لقلبي سوى ظلَّ أنثى ولم يبق لنهرنا الشقي سوى حثالة الأهل المتسربين ومثل كل مرة كانت المدينة تسورني بالتماعاتها وتأمرني بالبكاء ـ وانا المجبول دمعاً ـ إذن كيف أوهمونا ان للمدن ذاكرة ؟ يا مدينة الباعة الصغار أخافُ على زجاجة روحي أربعون صيفا ولم تهشمها دورة المعاركِ ولا غزو خائنات العيون لأن روحي ماء النار يا مدينة الحصار جفّ القلبُ جف النهر فما عاد القلب كبيراً ولا عاد النهر عظيما والذي كانت تزفه النوارس دهراَ هجرته الآن حتى الضفادع فمثل القلب إقفر ومثل البعض خان الأسرار يا بلدة الغار أكتوي وجداً وأنثر على النهر حبات قلبي فللخائبين ظمأ واحد وشاطئ واحد يغسله حزن الأشجار يا بقية الدار