يرى هنري لوفيفر أن الحداثة كلمة لا تُستهلك على الرغم من كثرة الاستعمال. وهي، بحسب لوفيفر أيضاً، كلمة لا تُقدم أية إجابة محددة عن معناها. فهل يعني هذا أننا إزاء مصطلح إشكالي؟ أظن نعم، ولاسيما في فضائنا الثقافي العربي والعراقي. حيث بقيت شريحة المثقفين، تردد هذه الكلمة، لعقود، كما لو أنها الرقية السحرية التي ستنتشلنا من عتمة واقعنا وانحطاطه. وتعطينا مفاتيح الحلول لمشكلاتنا العويصة الموروثة منها، وكذلك المستجدة والمرتقبة. ومن غير أن تشحنها بمدلولها الواقعي والتاريخي، بتبيئتها أولاً، وجعلها، بعد ذلك، مشروعاً مركّباً، لا في حقل الثقافة وحسب، وإنما للمجتمع والدولة لاستكمال شروط النهضة العربية ( والعراقية ) الحديثة وتجاوز عثراتها. نقول مشروعاً مركّباً لأن المفهوم نفسه ( الحداثة ) ينطوي بالضرورة على ما هو شامل ومتعدد الأبعاد اجتماعياً وتاريخياً. بعدما تعامل معها بعض مدّعي الحداثة، في حقول الآداب والفنون، بخفة وسذاجة، حين اعتقدوا أن السعي للحداثة هو قرار ذاتي، مزاجي، يتخذه هذا الكاتب أو الفنان أو المفكر أو ذاك السياسي في أن يكون حداثياً، من غير الالتفات إلى الشروط الواقعية والتاريخية التي تتطلبها كل عملية تحديث. فالحداثة هي إجراء تغيرات في العمق تشمل صُعد الفكر والقيم والسلوك العام والمؤسسات. وبطبيعة الحال هذا لا يعني إنكار حقيقة أن فكر الحداثة يمكن، أو لابد، أن يرهص ويؤسس لتجربة الحداثة ويعززها، لا أن يكون بديلاً عنها. يفرّق مالكولم برادبري وجيمس ماكفارلن بين ثلاثة أنواع رئيسة من الحداثة. يتمثل الأول في الهزات البسيطة ( الموضة/ التقليعة ) التي غالباً ما تأتي بها الأجيال المتعاقبة وتستمر لمدة لا تزيد عن عشر سنوات. والثاني يتمثل في هزات الإزاحات الكبيرة التي تمتاز بالتحولات العميقة والواسعة والتي قد يستمر تأثيرها لقرون، والثالث يتمثل بذلك النوع المدمر الكاسح الذي يقوّض مساحات واسعة من البناء الحضاري والفكري، ويتركها أنقاضاً. ولا شك أن المؤلفان ( برادبري وماكفارلن ) يكتبان وفي بالهما تاريخ الحداثة الغربية التي سبقت أية عملية تحديث في الأجزاء الأخرى من العالم في العصر الحديث. أما عربياً، وبحكم عوامل الجغرافية السياسية والتاريخ السياسي كانت مصر سباقة في تحديث ثقافتها ومجتمعها ودولتها قياساً إلى بقية البلدان العربية، وهي حداثة عُمِّمت عربياً لكنها ظلت قاصرة ومبتورة ومشوهة. بمعنى أنها لم تستكمل قط شروط تفتحها ونموها الطبيعي، ولم تُمهّد لها الأرضية الملائمة لتكون مشروعاً مجتمعياً ودولتياً يدخل في نسيج عقل وضمير النخب السياسية والثقافية، ويتحول إلى جزء من الهاجس والسلوك الاجتماعيين. فعبء الماضي كان يثقل كاهل الأحياء، ومنطق التحريم والتكفير كان يحول دون أي إبداع حقيقي أو تحوّل جذري في الفكر والواقع يمكن أن يهدد البنى والمؤسسات القديمة وما ترتبط بها من مصالح وغايات. تتداخل في الفكر العربي مفاهيم الإصلاح والنهضة والحداثة، وتبدو أحياناً وكأنها، جميعاً، توحي بمعنى واحد، وتفضي نحو غاية واحدة. وكان مفهوم الإصلاح هو أول ما دخل قاموسنا الفكري والسياسي الحديث. وكما نعلم فإن لهذا المفهوم جذره في تراثنا في اشتباك مع ما هو ديني يوم لم يكن الدنيوي قد تجرأ على فك ارتباطه بالديني حتى من الناحية النظرية. وبدأت أولى رياح التغيير بالهبوب على المنطقة بفعل الغزو الفرنسي لمصر بقيادة نابليون بونابرت ( 1798 ). والنزعة الإصلاحية لمحمد علي الذي تبوأ عرش مصر بعد الغزو بسنوات قليلة ( 1805 ). ومن ثم، التماس مع فكر الغرب وواقعه ( رحلة الطهطاوي إلى باريس وكتابه تخليص الأبريز نموذجاً ). هذه العوامل كلها، مع غيرها، جعلت من الإصلاح مفهوماً ضاغطاً على العقل العربي الذي راح يستيقظ من سباته الطويل أخيراً، ويحاول، في البدء، أن يفهم ما جرى حقاً، وما هو الوضع في حقيقته القائمة قبل أن يشرع بابتداع أسئلة المستقبل. كان فكر الإصلاح إذن مشرباً برؤية دينية تحاول أن تستوعب منطق العصر بالعودة إلى مناهج ومعايير الأقدمين، مع استعارة مفاهيم انسلت من منابع فكر التنوير الأوروبي ومعطيات الثورة الفرنسية ( 1789 ). وكان مفهوم الإصلاح ( العربي ) يستدعي ذهنياً، كذلك، فكرة الإصلاح الديني الغربي الذي بدأه مارتن لوثر في القرن السادس عشر ممهداً لعصر التنوير ( القرنين السابع عشر والثامن عشر ) والثورة الصناعية ( القرن التاسع عشر ). وباختصار لم يكن فكر الإصلاح، حسب ما قال به الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبدة وآخرين، سوى محاولة استئناف للحركة التي انقطعت قبل قرون مذ دخلت المنطقة العربية الإسلامية الفترة المظلمة بعد سقوط بغداد على يد المغول ( 1258 ميلادية ). وكان مفهوم الإصلاح نفسه قاصراً وضعيفاً أمام ما تتطلبه النهضة الحضارية من طرح أسئلة جريئة، وتحولات. واُستعير مفهوم النهضة من قاموس الفكر الأوروبي وتاريخه، حيث شكّل، هناك، انعطافاً مضيئاً للخروج من ظلمات القرون الوسطى ( سيطرة الكنيسة والإقطاع ). وكانت القرون الوسطى العربية قد امتدت حتى القرن التاسع عشر، ( وفي أجزاء من البلاد العربية حتى منتصف القرن العشرين، إن لم نقل حتى الآن )، تاركة إرثاً ثقيلاً من التخلف، في مجالات الحياة كافة. وكان العراق قد تعاطى مع ثقافة الإصلاح والنهضة مبكراً بتأثير ثلاث قنوات، أولها فكر الإصلاح والنهضة الذي انتعش في قلب الدولة العثمانية ( وكان العراق بولاياته الثلاث جزءاً منها )، ولاسيما في أواخر عهدها. والثانية فكر النهضة والإصلاح في مصر وبلاد الشام. والثالثة بدء الاحتكاك، بوساطة بعض النخب العراقية، مع فكر الغرب الحديث. وفي الأحوال كلها، لم يستطع فكر النهضة العربية المضي قدماً في طرح أسئلتها، وتناول الإشكاليات المطروحة بمنهجية علمية وعقلانية جريئة. على الرغم من أن سعياً جدياً نحو تحقيق إزاحة فعلية في بنية ذلك الفكر كان يمكن أن ينقل واقعنا حضارياً لو قيّض لمفكرين تنويرين عرب أن ينتجوا بحرية ومن غير روادع وقمع، كما حصل لطه حسين وعلي عبد الرازق، حين تعرّضا إلى تهديدات وهجمات حرّاس ( السياج الدوغمائي المغلق ) بتوصيف محمد أركون. وهمِّشا واُرغما على التراجع قسراً. وكما سيحصل، لاحقاً، لعشرات من المفكرين العرب غيرهما. وهنا، مع ظاهرة الهجرة والاحتكاك والانفتاح على فكر الغرب ( الإيديولوجيات القومية الفاشية، والماركسية ) انتعش ما سيُعرف بالفكـر الثوري ( الراديكالي ). كان ثقل الإرث المتحدر من القرون المظلمة، والإحساس بالفجوة الحضارية ( العلمية والفكرية والمادية ) بيننا وبين الغرب بعد صدمة الاستعمار، فضلاً عن نفاد الصبر، قد أوهم جيلاً شاباً حالماً بأن الوصول إلى ما وصلت إليه الحضارة الغربية في غضون سنوات، او عقود قليلة، بات ممكناً. لينتعش الفكر الراديكالي بنسخه ( الماركسية والقومية والإسلامية ) والذي صار إيديولوجية مؤسسات سياسية ( أحزاب ونقابات وقوى ) منذ عقدي العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين، لتتبناها حكومات وطنية قادها عسكر من أصول ريفية، في الغالب. ألهب الفكر الراديكالي حماس الشارع السياسي خالقاً وعياً وسلوكاً انفعاليين، ساهم، لا شك، في تحرير أجزاء من البلاد العربية من السيطرة الاستعمارية الكولونيالية، بيد أنه فشل في بناء الدولة القومية الحديثة، وتحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية. وأدت مغامرات متبني ذلك الفكر من السياسيين الذين استحوذوا على كراسي الحكم إلى هذا الخراب الذي نعيشه اليوم. وكان الدكتور لويس عوض قد لخّص في كتابه ( أقنعة الناصرية السبعة ) محنة الحكم الناصري ( وهو النمط الذي جرى احتذاءه في أكثر من بلد عربي ) في عبارة أن هذا الحكم كان يعرف ما لا يريد، لكنه لم يكن يعرف ماذا يريد!. لم تدخل كلمات ( الإصلاح ) و ( النهضة )، وبعد ذلك ( الحداثة )، قاموس الشارع السياسي العربي مثلما دخلته كلمات من قبيل ( الانقلاب، الثورة، النضال، الكفاح المسلح، حرق المراحل، الاشتراكية، الوحدة ) وكان الاندفاع نحو تدمير ما هو واقع وقائم أكبر بكثير من السعي لإعادة البناء والتنمية. وعمل الطابع الشعبوي للأنظمة الراديكالية على إشاعة وعي زائف أفضى إلى أن تكون السياسة انشغالاً عاماً، لكنه غير منتج، في كثر من الأحيان، وضاراً ومخرباً. وكانت تلك ثقافة ( سياسية ) مهلهلة ومسطحة وتبسيطية توهم حاملها بأنه يحتكر الحقيقة، ويعرف كل شيء، على الرغم من أنه، في واقع الأمر، لا يكاد يعرف أي شيء. وكان من نتائج انتشار تلك الثقافة: 1ـ ولوج الأدعياء وأنصاف الأميين والانتهازيين والمهووسين والطامعين بالسلطة والمصابين بالعقد النفسية حلبة السياسة. 2ـ افتقاد الحس السياسي السليم الذي يستطيع التعاطي مع الواقع، ويكشف منابع إمكاناته الحقيقية. ولا يعني الحس السياسي السليم، بأي حال، الاستسلام لواقع الحال، وإنما امتلاك الوسيلة الناجعة للتحري عن إمكاناته الحقيقية وإرساء الدعائم الضرورية لتحويله وبنائه. 3ـ شيوع ( لغة ) في الخطاب السياسي والإعلام تثير الغرائز والعواطف، وتخدِّر العقل. وهذه اللغة لم ترسّخ أسس بناء دولة حديثة بقدر ما أعادت إنتاج مفاهيم ما قبل الدولة، وما قبل الحداثة بصورة مقنّعة ومموهة. كانت تلك لغة للمتاجرة والمزاودة السياسية، وليست للفعل الحقيقي الذي يحوِّل الواقع ويبنيه. والغريب أن شريحة واسعة من المثقفين، كانوا، ولا يزالون، يشاركون في تلك المتاجرة والمزاودة، مع السلطة أو ضدها. لو نظرنا بعمق إلى إيديولوجيات ولغة الخطاب السياسي ووسائل عمل وتكتيكات وهياكل البناء التنظيمي للأحزاب والقوى السياسية المتصارعة على الساحة السياسية العربية، ولاسيما ذات المنحى الشمولي منها، سواء من انتمى منها إلى اليمين أو إلى اليسار، لوجدنا أنها تتشابه في نواحي كثيرة. وتكاد تصدر، في معظمها، عن، أو تستند إلى، بنية عميقة واحدة متأصلة في تاريخنا الاجتماعي والثقافي. وأنها عكست العلاقات الأبوية البطريركية، والمنظومة المعرفية والقيمية المرتبطة بها، بغض النظر عمّا اتخذت لنفسها وتداولت من تسميات ومصطلحات وشعارات. وهذا ما يشكل أحد العوامل الرئيسة في أننا لم نشهد عربياً عملية بناء دولة حديثة، قائمة على قواعد عصرية راسخة.. دولة منتجة، تستطيع استثمار موارد وطاقات الأمة، وتحقق للمجتمع الحرية والسعادة. وحين تخفق الدولة في تنمية موارد المجتمع وإشباع حاجات طبقاته وشرائحه المختلفة وإرضائها تلجأ إلى الاحتماء منه، وذلك بالانكفاء عنه، واستمالة أقلية انتهازية من الأفراد تغدق عليهم الأموال وتمنحهم الامتيازات على حساب الأغلبية، ليكونوا أداتها في قمع أية نزعة للاحتجاج والتمرد الاجتماعي، وبالاستخدام القاسي لوسائل العنف والإكراه. وكذلك توثق الدولة ( الفاشلة ) هذه ارتباطها بـ ... وتدور في فلك ... وتشبك مصالحها الاقتصادية والسياسية مع مصالح، دولة أو دول أخرى أقوى منها. فينشأ نمط من التواطؤ، أو التحالف الظاهر أو الخفي، بين الجهتين. وهذا ما يفسر استمرار حكومات غير شرعية في دول فاشلة لعقود أو سنوات طويلة، على الرغم من أنها مرفوضة ومكروهة من مجتمعاتها وشعوبها. ظل فكر الحداثة بالأسلوب الذي تعاطى معه المثقفون منفصلاً عن فكرة الدولة حول تحديث ذاتها. وإذ لم يبد هاجس الحداثة عند شريحة واسعة من المثقفين العرب ضاغطاً لعدم استناده إلى حس تاريخي مستقبلي يتمثل حركة المجتمع والعالم في تقدمه العلمي والمعرفي والتقني والاجتماعي، مع وعي معوقاته، ويستوعب المكتسبات الحضارية المتجددة. فإن الدولة ( أو بالأحرى شبة الدولة العربية ) لم تحدِّث نفسها إلاّ إلى الحد ( وبالطريقة ) الذي يبقيها مستمرة في وضعها الحالي. وكانت الأزمة بتعبير برهان غليون في كتابه ( المحنة العربية: الدولة ضد الأمة ) هي أزمة نوع خاص من الحداثة "هو ما تحت الحداثة، أو حثالة الحداثة، أكثر منه حداثة بالمعنى الحقيقي للكلمة. وهذه الحثالة التي سميناها حداثة وصلت إلى طريق مسدود، لأنها لم تعد تلهم أحداً ولا توفر حاجات التنمية والأمن والسعادة والحرية والكرامة، وظهر فساد مفهومها وبنيتها وممارستها وأهدافها". وينكر غليون أن يكون سبب انسداد طريق حداثتنا هو مقاومة القيم التقليدية لها، وإنما يرجعه إلى الانحرافات الأصلية التي طبعتها. كانت حداثة المثقفين العرب، في الغالب، شكلية خاوية. وكانت الدولة العربية ( الحديثة ) مشوهة، وهشة، وعتيقة الطراز، إذا ما أزحنا عن وجهها قناعها البراق. وباستعارة تقسيم برادبري وماكفارلن لأنواع الحداثة، التي نوهنا عنها آنفاً، نستطيع القول أن تبني حداثة الموضة/ التقليعة هو الذي ميّز اتجاهات كثر من المثقفين العرب، فيما استعانت مراكز قوى واسعة من السلطة العربية بحداثة التدمير الشامل الذي يترك كل شيء أنقاضاً. مع تبادل الأدوار، بين هؤلاء وأولئك، في بعض الأحيان. أخيراً يبقى أي كلام ( أو خطاب أو مشروع ) عن الحداثة بلا معنى إذا لم يجعل محوره شذرتي الحداثة ( بتعبير آلان تورين ) وهما انبثاق الذات الفردية بعدِّها حرية وكرامة وطاقة عمل وإبداع. وسيادة العقل بعدِّه أداة الرؤية والفكر والممارسة. وهذا ما لم يتجسد بفعالية، لا في مشاريع المثقفين النظرية، إلا باستثناءات. ولا في مشاريع الأنظمة العربية، ومن غير استثناء.
الصفحات
▼
حداثة المثقف.. تحديث الدولة : سعد محمد رحيم
يرى هنري لوفيفر أن الحداثة كلمة لا تُستهلك على الرغم من كثرة الاستعمال. وهي، بحسب لوفيفر أيضاً، كلمة لا تُقدم أية إجابة محددة عن معناها. فهل يعني هذا أننا إزاء مصطلح إشكالي؟ أظن نعم، ولاسيما في فضائنا الثقافي العربي والعراقي. حيث بقيت شريحة المثقفين، تردد هذه الكلمة، لعقود، كما لو أنها الرقية السحرية التي ستنتشلنا من عتمة واقعنا وانحطاطه. وتعطينا مفاتيح الحلول لمشكلاتنا العويصة الموروثة منها، وكذلك المستجدة والمرتقبة. ومن غير أن تشحنها بمدلولها الواقعي والتاريخي، بتبيئتها أولاً، وجعلها، بعد ذلك، مشروعاً مركّباً، لا في حقل الثقافة وحسب، وإنما للمجتمع والدولة لاستكمال شروط النهضة العربية ( والعراقية ) الحديثة وتجاوز عثراتها. نقول مشروعاً مركّباً لأن المفهوم نفسه ( الحداثة ) ينطوي بالضرورة على ما هو شامل ومتعدد الأبعاد اجتماعياً وتاريخياً. بعدما تعامل معها بعض مدّعي الحداثة، في حقول الآداب والفنون، بخفة وسذاجة، حين اعتقدوا أن السعي للحداثة هو قرار ذاتي، مزاجي، يتخذه هذا الكاتب أو الفنان أو المفكر أو ذاك السياسي في أن يكون حداثياً، من غير الالتفات إلى الشروط الواقعية والتاريخية التي تتطلبها كل عملية تحديث. فالحداثة هي إجراء تغيرات في العمق تشمل صُعد الفكر والقيم والسلوك العام والمؤسسات. وبطبيعة الحال هذا لا يعني إنكار حقيقة أن فكر الحداثة يمكن، أو لابد، أن يرهص ويؤسس لتجربة الحداثة ويعززها، لا أن يكون بديلاً عنها. يفرّق مالكولم برادبري وجيمس ماكفارلن بين ثلاثة أنواع رئيسة من الحداثة. يتمثل الأول في الهزات البسيطة ( الموضة/ التقليعة ) التي غالباً ما تأتي بها الأجيال المتعاقبة وتستمر لمدة لا تزيد عن عشر سنوات. والثاني يتمثل في هزات الإزاحات الكبيرة التي تمتاز بالتحولات العميقة والواسعة والتي قد يستمر تأثيرها لقرون، والثالث يتمثل بذلك النوع المدمر الكاسح الذي يقوّض مساحات واسعة من البناء الحضاري والفكري، ويتركها أنقاضاً. ولا شك أن المؤلفان ( برادبري وماكفارلن ) يكتبان وفي بالهما تاريخ الحداثة الغربية التي سبقت أية عملية تحديث في الأجزاء الأخرى من العالم في العصر الحديث. أما عربياً، وبحكم عوامل الجغرافية السياسية والتاريخ السياسي كانت مصر سباقة في تحديث ثقافتها ومجتمعها ودولتها قياساً إلى بقية البلدان العربية، وهي حداثة عُمِّمت عربياً لكنها ظلت قاصرة ومبتورة ومشوهة. بمعنى أنها لم تستكمل قط شروط تفتحها ونموها الطبيعي، ولم تُمهّد لها الأرضية الملائمة لتكون مشروعاً مجتمعياً ودولتياً يدخل في نسيج عقل وضمير النخب السياسية والثقافية، ويتحول إلى جزء من الهاجس والسلوك الاجتماعيين. فعبء الماضي كان يثقل كاهل الأحياء، ومنطق التحريم والتكفير كان يحول دون أي إبداع حقيقي أو تحوّل جذري في الفكر والواقع يمكن أن يهدد البنى والمؤسسات القديمة وما ترتبط بها من مصالح وغايات. تتداخل في الفكر العربي مفاهيم الإصلاح والنهضة والحداثة، وتبدو أحياناً وكأنها، جميعاً، توحي بمعنى واحد، وتفضي نحو غاية واحدة. وكان مفهوم الإصلاح هو أول ما دخل قاموسنا الفكري والسياسي الحديث. وكما نعلم فإن لهذا المفهوم جذره في تراثنا في اشتباك مع ما هو ديني يوم لم يكن الدنيوي قد تجرأ على فك ارتباطه بالديني حتى من الناحية النظرية. وبدأت أولى رياح التغيير بالهبوب على المنطقة بفعل الغزو الفرنسي لمصر بقيادة نابليون بونابرت ( 1798 ). والنزعة الإصلاحية لمحمد علي الذي تبوأ عرش مصر بعد الغزو بسنوات قليلة ( 1805 ). ومن ثم، التماس مع فكر الغرب وواقعه ( رحلة الطهطاوي إلى باريس وكتابه تخليص الأبريز نموذجاً ). هذه العوامل كلها، مع غيرها، جعلت من الإصلاح مفهوماً ضاغطاً على العقل العربي الذي راح يستيقظ من سباته الطويل أخيراً، ويحاول، في البدء، أن يفهم ما جرى حقاً، وما هو الوضع في حقيقته القائمة قبل أن يشرع بابتداع أسئلة المستقبل. كان فكر الإصلاح إذن مشرباً برؤية دينية تحاول أن تستوعب منطق العصر بالعودة إلى مناهج ومعايير الأقدمين، مع استعارة مفاهيم انسلت من منابع فكر التنوير الأوروبي ومعطيات الثورة الفرنسية ( 1789 ). وكان مفهوم الإصلاح ( العربي ) يستدعي ذهنياً، كذلك، فكرة الإصلاح الديني الغربي الذي بدأه مارتن لوثر في القرن السادس عشر ممهداً لعصر التنوير ( القرنين السابع عشر والثامن عشر ) والثورة الصناعية ( القرن التاسع عشر ). وباختصار لم يكن فكر الإصلاح، حسب ما قال به الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبدة وآخرين، سوى محاولة استئناف للحركة التي انقطعت قبل قرون مذ دخلت المنطقة العربية الإسلامية الفترة المظلمة بعد سقوط بغداد على يد المغول ( 1258 ميلادية ). وكان مفهوم الإصلاح نفسه قاصراً وضعيفاً أمام ما تتطلبه النهضة الحضارية من طرح أسئلة جريئة، وتحولات. واُستعير مفهوم النهضة من قاموس الفكر الأوروبي وتاريخه، حيث شكّل، هناك، انعطافاً مضيئاً للخروج من ظلمات القرون الوسطى ( سيطرة الكنيسة والإقطاع ). وكانت القرون الوسطى العربية قد امتدت حتى القرن التاسع عشر، ( وفي أجزاء من البلاد العربية حتى منتصف القرن العشرين، إن لم نقل حتى الآن )، تاركة إرثاً ثقيلاً من التخلف، في مجالات الحياة كافة. وكان العراق قد تعاطى مع ثقافة الإصلاح والنهضة مبكراً بتأثير ثلاث قنوات، أولها فكر الإصلاح والنهضة الذي انتعش في قلب الدولة العثمانية ( وكان العراق بولاياته الثلاث جزءاً منها )، ولاسيما في أواخر عهدها. والثانية فكر النهضة والإصلاح في مصر وبلاد الشام. والثالثة بدء الاحتكاك، بوساطة بعض النخب العراقية، مع فكر الغرب الحديث. وفي الأحوال كلها، لم يستطع فكر النهضة العربية المضي قدماً في طرح أسئلتها، وتناول الإشكاليات المطروحة بمنهجية علمية وعقلانية جريئة. على الرغم من أن سعياً جدياً نحو تحقيق إزاحة فعلية في بنية ذلك الفكر كان يمكن أن ينقل واقعنا حضارياً لو قيّض لمفكرين تنويرين عرب أن ينتجوا بحرية ومن غير روادع وقمع، كما حصل لطه حسين وعلي عبد الرازق، حين تعرّضا إلى تهديدات وهجمات حرّاس ( السياج الدوغمائي المغلق ) بتوصيف محمد أركون. وهمِّشا واُرغما على التراجع قسراً. وكما سيحصل، لاحقاً، لعشرات من المفكرين العرب غيرهما. وهنا، مع ظاهرة الهجرة والاحتكاك والانفتاح على فكر الغرب ( الإيديولوجيات القومية الفاشية، والماركسية ) انتعش ما سيُعرف بالفكـر الثوري ( الراديكالي ). كان ثقل الإرث المتحدر من القرون المظلمة، والإحساس بالفجوة الحضارية ( العلمية والفكرية والمادية ) بيننا وبين الغرب بعد صدمة الاستعمار، فضلاً عن نفاد الصبر، قد أوهم جيلاً شاباً حالماً بأن الوصول إلى ما وصلت إليه الحضارة الغربية في غضون سنوات، او عقود قليلة، بات ممكناً. لينتعش الفكر الراديكالي بنسخه ( الماركسية والقومية والإسلامية ) والذي صار إيديولوجية مؤسسات سياسية ( أحزاب ونقابات وقوى ) منذ عقدي العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين، لتتبناها حكومات وطنية قادها عسكر من أصول ريفية، في الغالب. ألهب الفكر الراديكالي حماس الشارع السياسي خالقاً وعياً وسلوكاً انفعاليين، ساهم، لا شك، في تحرير أجزاء من البلاد العربية من السيطرة الاستعمارية الكولونيالية، بيد أنه فشل في بناء الدولة القومية الحديثة، وتحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية. وأدت مغامرات متبني ذلك الفكر من السياسيين الذين استحوذوا على كراسي الحكم إلى هذا الخراب الذي نعيشه اليوم. وكان الدكتور لويس عوض قد لخّص في كتابه ( أقنعة الناصرية السبعة ) محنة الحكم الناصري ( وهو النمط الذي جرى احتذاءه في أكثر من بلد عربي ) في عبارة أن هذا الحكم كان يعرف ما لا يريد، لكنه لم يكن يعرف ماذا يريد!. لم تدخل كلمات ( الإصلاح ) و ( النهضة )، وبعد ذلك ( الحداثة )، قاموس الشارع السياسي العربي مثلما دخلته كلمات من قبيل ( الانقلاب، الثورة، النضال، الكفاح المسلح، حرق المراحل، الاشتراكية، الوحدة ) وكان الاندفاع نحو تدمير ما هو واقع وقائم أكبر بكثير من السعي لإعادة البناء والتنمية. وعمل الطابع الشعبوي للأنظمة الراديكالية على إشاعة وعي زائف أفضى إلى أن تكون السياسة انشغالاً عاماً، لكنه غير منتج، في كثر من الأحيان، وضاراً ومخرباً. وكانت تلك ثقافة ( سياسية ) مهلهلة ومسطحة وتبسيطية توهم حاملها بأنه يحتكر الحقيقة، ويعرف كل شيء، على الرغم من أنه، في واقع الأمر، لا يكاد يعرف أي شيء. وكان من نتائج انتشار تلك الثقافة: 1ـ ولوج الأدعياء وأنصاف الأميين والانتهازيين والمهووسين والطامعين بالسلطة والمصابين بالعقد النفسية حلبة السياسة. 2ـ افتقاد الحس السياسي السليم الذي يستطيع التعاطي مع الواقع، ويكشف منابع إمكاناته الحقيقية. ولا يعني الحس السياسي السليم، بأي حال، الاستسلام لواقع الحال، وإنما امتلاك الوسيلة الناجعة للتحري عن إمكاناته الحقيقية وإرساء الدعائم الضرورية لتحويله وبنائه. 3ـ شيوع ( لغة ) في الخطاب السياسي والإعلام تثير الغرائز والعواطف، وتخدِّر العقل. وهذه اللغة لم ترسّخ أسس بناء دولة حديثة بقدر ما أعادت إنتاج مفاهيم ما قبل الدولة، وما قبل الحداثة بصورة مقنّعة ومموهة. كانت تلك لغة للمتاجرة والمزاودة السياسية، وليست للفعل الحقيقي الذي يحوِّل الواقع ويبنيه. والغريب أن شريحة واسعة من المثقفين، كانوا، ولا يزالون، يشاركون في تلك المتاجرة والمزاودة، مع السلطة أو ضدها. لو نظرنا بعمق إلى إيديولوجيات ولغة الخطاب السياسي ووسائل عمل وتكتيكات وهياكل البناء التنظيمي للأحزاب والقوى السياسية المتصارعة على الساحة السياسية العربية، ولاسيما ذات المنحى الشمولي منها، سواء من انتمى منها إلى اليمين أو إلى اليسار، لوجدنا أنها تتشابه في نواحي كثيرة. وتكاد تصدر، في معظمها، عن، أو تستند إلى، بنية عميقة واحدة متأصلة في تاريخنا الاجتماعي والثقافي. وأنها عكست العلاقات الأبوية البطريركية، والمنظومة المعرفية والقيمية المرتبطة بها، بغض النظر عمّا اتخذت لنفسها وتداولت من تسميات ومصطلحات وشعارات. وهذا ما يشكل أحد العوامل الرئيسة في أننا لم نشهد عربياً عملية بناء دولة حديثة، قائمة على قواعد عصرية راسخة.. دولة منتجة، تستطيع استثمار موارد وطاقات الأمة، وتحقق للمجتمع الحرية والسعادة. وحين تخفق الدولة في تنمية موارد المجتمع وإشباع حاجات طبقاته وشرائحه المختلفة وإرضائها تلجأ إلى الاحتماء منه، وذلك بالانكفاء عنه، واستمالة أقلية انتهازية من الأفراد تغدق عليهم الأموال وتمنحهم الامتيازات على حساب الأغلبية، ليكونوا أداتها في قمع أية نزعة للاحتجاج والتمرد الاجتماعي، وبالاستخدام القاسي لوسائل العنف والإكراه. وكذلك توثق الدولة ( الفاشلة ) هذه ارتباطها بـ ... وتدور في فلك ... وتشبك مصالحها الاقتصادية والسياسية مع مصالح، دولة أو دول أخرى أقوى منها. فينشأ نمط من التواطؤ، أو التحالف الظاهر أو الخفي، بين الجهتين. وهذا ما يفسر استمرار حكومات غير شرعية في دول فاشلة لعقود أو سنوات طويلة، على الرغم من أنها مرفوضة ومكروهة من مجتمعاتها وشعوبها. ظل فكر الحداثة بالأسلوب الذي تعاطى معه المثقفون منفصلاً عن فكرة الدولة حول تحديث ذاتها. وإذ لم يبد هاجس الحداثة عند شريحة واسعة من المثقفين العرب ضاغطاً لعدم استناده إلى حس تاريخي مستقبلي يتمثل حركة المجتمع والعالم في تقدمه العلمي والمعرفي والتقني والاجتماعي، مع وعي معوقاته، ويستوعب المكتسبات الحضارية المتجددة. فإن الدولة ( أو بالأحرى شبة الدولة العربية ) لم تحدِّث نفسها إلاّ إلى الحد ( وبالطريقة ) الذي يبقيها مستمرة في وضعها الحالي. وكانت الأزمة بتعبير برهان غليون في كتابه ( المحنة العربية: الدولة ضد الأمة ) هي أزمة نوع خاص من الحداثة "هو ما تحت الحداثة، أو حثالة الحداثة، أكثر منه حداثة بالمعنى الحقيقي للكلمة. وهذه الحثالة التي سميناها حداثة وصلت إلى طريق مسدود، لأنها لم تعد تلهم أحداً ولا توفر حاجات التنمية والأمن والسعادة والحرية والكرامة، وظهر فساد مفهومها وبنيتها وممارستها وأهدافها". وينكر غليون أن يكون سبب انسداد طريق حداثتنا هو مقاومة القيم التقليدية لها، وإنما يرجعه إلى الانحرافات الأصلية التي طبعتها. كانت حداثة المثقفين العرب، في الغالب، شكلية خاوية. وكانت الدولة العربية ( الحديثة ) مشوهة، وهشة، وعتيقة الطراز، إذا ما أزحنا عن وجهها قناعها البراق. وباستعارة تقسيم برادبري وماكفارلن لأنواع الحداثة، التي نوهنا عنها آنفاً، نستطيع القول أن تبني حداثة الموضة/ التقليعة هو الذي ميّز اتجاهات كثر من المثقفين العرب، فيما استعانت مراكز قوى واسعة من السلطة العربية بحداثة التدمير الشامل الذي يترك كل شيء أنقاضاً. مع تبادل الأدوار، بين هؤلاء وأولئك، في بعض الأحيان. أخيراً يبقى أي كلام ( أو خطاب أو مشروع ) عن الحداثة بلا معنى إذا لم يجعل محوره شذرتي الحداثة ( بتعبير آلان تورين ) وهما انبثاق الذات الفردية بعدِّها حرية وكرامة وطاقة عمل وإبداع. وسيادة العقل بعدِّه أداة الرؤية والفكر والممارسة. وهذا ما لم يتجسد بفعالية، لا في مشاريع المثقفين النظرية، إلا باستثناءات. ولا في مشاريع الأنظمة العربية، ومن غير استثناء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق