ذكرها ياقوت الحموي وزارها ألجواهري عام 1959
بهرز .. حاضرة سبق الساسانيين وقوانينها سبقت مسلة حمورابي بمئتي عام
عمر الدليمي
تصوير سامي أبو ريه
متعبا يصل إليها خريسان ، فتحتفي به أشجار ومواويل وعصافير ، تهدهده قصائد وتحنو عليه صباحات بعذوبة السلام ، تلك هي بهرز التي علمت القرون إن الحياة تواصل وعطاء . بهرز ، .. أو قل بستان ، متصل بالروح بدءا ، وليس بالنظر فحسب ، أهلها ودودن ورثوا الألفة من ذلك العمق التاريخي الذي يميزها عن حواضر محافظة ديالى الأخرى ، وعندما يدخلها المرء - لأول مرة - متجولا مابين أزقتها ، التي ينبأ كل شبر فيها عن حكاية يعرفها البهرزيون ، وتكاد تشم ذكاء عصور خلت مع كل خطوة على ثراها الزكي .. تحدثك جدران ، وتقودك دهشة
المكان إلى حقيقة كبيرة .. هنا إنسان . أقول انك إذ تدخل المدينة تنظر إليك العيون مستفهمة لا لريبة ، بل لأنك ربما تحتاج لمساعدة ما . بهرز المدينة تكاد تعرف بعضها البعض بشكل كامل وكأنها أسرة واحدة . لم لا وأهلها سليلوا زمن طال تواصله حتى آلف بين قلوب هي أسرة بهرز الكبيرة التي نعرف ونأنس ، ويفتخر البهرزيون إن عشرات السنين قد مرت دون يقتل إنسان فيها لأي من أسباب النزاع وهو دليل وعي وتحضر – كما يقولون - فمنذ العام 1930 حتى العام 2003 لم تسجل مراكز الشرطة أي حادث من هذا القبيل ولم تحدث حالة نزاع عشائري حتى إنهم لا يتنادون بالألقاب العشائرية ، بل بأسماء الأسر التي تعارفوا عليها واكتسبوها من مهنهم أو أسماء أجدادهم ، فكانوا يطلقون على كل عائلة تسمية ( بيت ) مثل بيت ثابت وبيت صافي وبيت عباس الفارس وبيت دبش وبيت أبو الياس وبيت فليح وبيت الرحبي وبيت الأخرس وبيت السكني وبيت حربي ، وما زالت هذه التسميات متداولة حتى انك عندما تسال عن احد ما باسم عشيرته لن تجد ضالتك وهذا مرده حسب الباحث التاريخي قاسم صالح محمود البهرزي إلى إن بهرز المتحضرة قد ذوبت تقاليد البداوة في مرجل تحضرها الضارب بالعمق التاريخي سيما أنها موطن حضارة عراقية مهمة هي حضارة اشنونا .
بهرز .. الموقع والتسمية
عندما تقصد بهرز عن طريق مدخلها الشمالي وهو المدخل الرئيسي للمدينة - التي تذكر المصادر التاريخية إنها قد بنيت قبل بناء المدائن - فانك ستحض برفقة ممتعة على طول مسافة الطريق القصير الذي لا يتجاوز خمسة كيلومترات إلى الجنوب من مدينة بعقوبة. رفيقك الممتع هو جدول خريسان ، الذي سيدلك - منذ أول خطوة في ذلك الطريق - على بساتين ومواويل وحكايات لها أول وليس لها آخر ولن تسكت بهرز عن الكلام المباح لان عشاقها ما ملوا قصة عشقها الفريدة ، وأولهم نهر ديالى الذي يحتضن بهرز مثل عاشق دنف مشكلا بحيرة هلالية من جهة الغرب ، ولست ادر كيف احتملت هذه الترفه غضب النهر العظيم ( ديالاس أو تامرا ) ، والغضب هو ما تعنيه تسميته الآرامية الأصل قبل أن يصحف إلى ديالى . إن من يقول بغير الحب فهو واهم ، و الحب هو ما أسست بهرز زمنها عليه ، والذي يتحدث عنه الباحث قاسم صالح محمود البهرزي - مستعينا بمحاضرات الدكتور محمود الأمين ودراسة تاريخية عن مدينة بهرز لمحمد سلمان صادق ومصادر تاريخية أخرى – قائلا :
- إن تسمية بهرز وفق المؤرخين ( العلامة مصطفى جواد واحمد الرجيبي الحسني البعقوبي ) قد جاءت من مقطعين ( بو – هرز ) وهو من ملوك فارس أو احد قادتها كان قد مر بها ، فيما يقول الدكتور احمد صالح العلي الرئيس السابق للمجمع العلمي إن كل اسم علم عراقي يبدأ بالباء فهو عراقي أصيل ، مشيرا إلى إن بهرز موجودة قبل الساسانيين الفرس بمئات السنين ويشكك الرجل بفارسية التسمية .
معالم بهرز التاريخية والأثرية
يواصل محدثنا الباحث قاسم البهرزي حديثه بالقول :
- في بهرز معالم تاريخية متعددة منها م اندثر ومنها مازال قائما فقد بني فيها أول مسجد مع الفتح الإسلامي ونذكر من مساجدها جامع بهرز الكبير ومساجد الخشالي و المنتريس و أبو الغيث والسهر وردي والإمام محمد عرب و الحاجة حصيلة و برغة ومن تكاياها تكية الشيخ ثابت وتكية بكر الشيخلي وتكية السيد يوسف ألمرسومي وتكية الشيخ هاشم الخشالي . ومن الشواهد التاريخية القنطرة العباسية وخان النقيب والقلعة والتي تسمى أيضا بالسنية وقبة أبو عمر وحمام النقيب ومقهى النقيب ، أما أشهر المواقع الأثرية والحضارية فيها في تل اسمر وتلول العبارة وتل الذهب وأم الخنازير وبرا بيج وأبو خزف وكرارة وصخيري وأبو الثعالب وأبو حصوة وإمام حبش واشجالي والخشاب وتل أجرب وقد يصل تعداد التلول الأثرية فيها إلى أكثر من خمسين تلا . وغير بعيد عن بهرز نشأت مملكة اشنونا الامورية في العصر البابلي القديم ، أهلها من الساميين الشرقيين – والكلام للباحث قاسم البهرزي – وتعد شريعة اشنونا في زمن الملك لبلا لاما من القوانين المتقدمة وسبقت شريعة حمو رابي وذلك في العام 1860 قبل الميلاد وكذلك سبقت الفرس الساسانيين وعن هذه الفترة ذكر الدكتور مصطفى جواد في بهرز إنها كانت منطقة بساتين جميلة وتأسست سنة 521 ميلادية على عهد قباذ إلا إن الحقيقة تدل على إنها كانت موجودة قبل هذا التاريخ بمئات السنين .
بهرز في العصر الإسلامي
ونسترسل في قصة العشق اللذيذة لبهرز مع ابنها البار المشرف التربوي والباحث التاريخي قاسم صالح محمود الذي يواصل حديثه قائلا :
- في سنة 661 ميلادية أي في السنة السادسة للهجرة دخلت بهرز الفتح الإسلامي على يد القعقاع بن عمر التميمي وهاشم بن عتبة ومعلوماتنا عنها في العصر الأموي قليلة مثلما كان حال العراق كله آنذاك لكن في العصر العباسي شهدت المنطقة مرور خلفاء بني العباس المنصور والرشيد والمأمون في مدن النهر وان ومنها بهرز والنهر وان نهر ينبع من القاطولي الذي يتغذى بالمياه من نهر دجلة عند منطقة سامراء وينتهي عند مشارف واسط وفي هذا الوقت بنيت القنطرة المقابلة لسوق بهرز الكبير وفيه أيضا ظهر العالم الكبير أبي فرج الحريري الطبري ابن يحيى ابن زكريا ابن أبي طرارة وهو عالم جليل درس القران والفقه وأصبح قاضي القضاة في بغداد وتتلمذ على يديه عشرات العلماء وكانت ولادته في أطراف بهرز ودفن فيها لكن قبره قد اندرس وهو من مواليد عام 303 الهجري. وشهدت هذه الفترة مرور الرحالة العربي احمد بن فضلان ببهرز وكانت ضمن قصبات بغداد وفي سنة 454 للهجرة كانت قد تعرضت لفيضانات شديدة من النهر العملاق ( تامرا ) ونعني به نهر ديالى الحالي . وفي مطلع القرن السابع الهجري وصف ياقوت الحموي بهرز بالقول إنها قرية كبيرة ذات بساتين وفيها جامع ومنبر وفيها رواة للحديث النبوي الشريف . أما الفترة العثمانية فقد شهدت بناء أقدم مقهى ما زالت قائمة – وان تغير شكل بنائها - وهي مقهى النقيب التي تقع قبالة القنطرة الأثرية المعروفة التي تقع على نهر خريسان وتربط جانبي المدينة ، كما بنيت خانات السنية وصبح والنقيب وحمامات عامة .
بهرز المعاصرة ... حياة متواصلة العطاء
وإذ سألنا الكاتب خضير العزاوي - وهو من الأسر البهرزية العريقة في المنطقة – عن بهرز المعاصرة حدثنا قائلا :
- بعد قيام الدولة العراقية الحديثة وقبلها كان للبهرزيين مساهمة واضحة في الحياة العامة وشارك عدد من الوطنيين من أهل المدينة في ثورة عام 1920 منهم مخيبر مرهج وشهدت الفترة الملكية ظهور عدد من الأحزاب التي تدعو للتحرر وتعمل على تنوير الناس ويذكر البهرزيون إنهم انتفضوا عند مقتل الملك غازي منددين بالانكليز كما شاركوا في معارك عام 1948 في فلسطين وفي ذات العام شاركت بهرز في الوثبة الوطنية المعروفة بوثبة كانون . أما الآن فهي إحدى نواحي مدينة بعقوبة مركز محافظة ديالى وتتميز بهرز بالكثافة السكانية العالية إذ يبلغ عدد مواطنيها قرابة ( 60 ) ألف نسمة وتحتوي على ثمانية مدارس ابتدائية وأربعة مدارس متوسطة وثانوية ومكتبة عامة ومركزين صحيين ومن محلاتها التي ما زالت قائمة حتى الآن ( السراي والمنتريس والمنثر والشاني وباب الخان والخشالات والسوق والفضوة ومحلة الهنود ) ونتيجة لتوجه أبناء بهرز الوطني فقد لاقوا شتى أنواع الاضطهاد والاعتقال السياسي وتعرضت لإهمال كبير ما زال يؤثر على الحياة العامة فيها .
الفلكلور الشعبي في بهرز
ويواصل الكاتب خضير العزاوي حديثه قائلا :
- اشتهرت بهرز بالكثير من المظاهر الفلكلورية وكان للزواج تقاليده ومنها أن يولم العريس لأصدقائه الذين يشاركونه فرحته بغناء المربعات والبستات وغالبا ما كان يجري الاحتفال بأحد المقاهي ،- وهذه المقاهي تتميز بكونها منابر ومجالس للفصل في كل الأمور- كما يقوم بإرسال الطعام بمختلف أنواعه إلى بيت خطيبته قبل يوم من زفافه .
في العام ( 1930 ) ظهر المقام البهرزي رسميا على يد صبري جاسم محمد الذي غناه في بغداد ، وكذلك الملا مهدي وكان البهرزيون غالبا ما يقصدون منطقة آثار سلمان باك وباب الشيخ لإقامة الحفلات الغنائية واشتهر فيها الكثير ممن كانوا يؤدون شتى أنواع الغناء السائد آنذاك ومنهم كامل مهدي وشياع العزاوي ونعمان السكني وداود شلال وهوبي البربش وجبارة الحمد وهؤلاء منهم عازفون ومنهم مؤدون . كما اشتهرت بهرز في مهن الحياكة للعباءة الرجالية والنسائية والبسط والسجاد وما زالت آلة الجومة التراثية تعمل في المنطقة وان كانت قد انحسرت وصارت على نطاق ضيق . وبما إن بهرز منطقة ذات بساتين تشتهر بإنتاج كل أنواع الفاكهة والتمر فقد ازدهرت فيها المهن الشعبية لإنتاج السلال والأقفاص التي تستخدم في حفظ ونقل المنتجات الزراعية وكذلك الأسرة المصنوعة من سعف النخيل ، فضلا عن حرفة النجارة لصناعة مختلف الأثاث المنزلي ، كما أود الإشارة إلى إن هناك مهنة انقرضت منذ عدة عقود وهي البقالة على ظهور الخيول حيث كان البائع يستخدم حصانا أو بغلا ويتجول في القرى والأرياف النائية ليبيع السكر والشاي والحلويات والتوابل والأقمشة وأدوات الزينة البسيطة من قلائد وأساور( وطين الخاوة ) الذي تغتسل النساء به ومستلزمات أخرى كانوا يقايضونها بالبيض والدجاج والحبوب المتنوعة وكانت الحصيلة تسوّق لأهالي بهرز.
واشتهرت بهرز بصناعة افخر أنواع الدبس وشراب الرمان ، وغالبا ما تقوم النساء بهذه المهمة ، بواسطة معاصر بدائية ،وما يميز المرأة البهرزية هو عنايتها الكبيرة بنظافة الطعام وكذلك المنزل ، وعلى ذلك يكون المنتج محط إعجاب المتذوقين .
مدينة مثقفة ،.. مدينة مبدعة
يذكر البهرزيون إن مدينتهم قد شهدت ظهور المكتبات العامة لغرض الاستعارة قبل العام 1946 وهو ما يدل على إنها مدينة مثقفة مبدعة ، عن هذا الجانب يحدثنا المصور الفوتوغرافي المبدع سامي أبو ريه قائلا :
- إن بهرز قد أنتجت على مر تاريخها قائمة طويلة من الأسماء المبدعة في كل المجالات من أساتذة جامعيين ومهندسين وأطباء وحقوقيين وتحتفظ بثراء تاريخي عميق في مجالات الثقافة والفن ، ونتذكر إن أول فلم عراقي ( نبخذ نصر ) كان من إخراج المرحوم كامل العزاوي وهو بهرزي الولادة والنشأة ومن مساهماته رحمه الله انه أسس إذاعة مدرسية في دار المعلمين العالية إبان الحقبة الخمسينية من القرن الماضي ومن أعلام الأدب والفن الذين لهم بصمات واضحة على الثقافة العراقية نذكر المرحوم صالح عبد القادر آل فليح وطه الحاج سعيد ونذير حميد ناجي وساطع جليل هاشم النجار ومنير ألعبيدي وحنان احمد محمد وناظم شكر ومهند زيدان ومعمر حميد ناجي وإبراهيم خليل البهرزي وأديب أبو نوار والمؤرخ المعروف المرحوم محمد جاسم البهرزي ولطفيه الدليمي وخالد هادي ونعمان القدري وعبد الملك آل شبيب الاقتصادي المعروف والدكتور عبد الكريم وحيد ، وتطول القائمة إذا ما أردنا أن نحصي ، وهو ما يدل على إن بهرز ولادة للمبدعين في شتى فروع الثقافة والفنون والعلوم ، ومن رجالاتها البررة إبراهيم الكيار والملا روزي الذي كان مثالا لمحبة بهرز ورجل دين ومصلح اجتماعي يعرفه البهرزيون جميعا ويحفظون نوادره ويروونها بمحبة بالغة ومن شخصيات المجتمع الآخرين سيد مجيد الدبش وعزيز الدروش وقدوري الثابت والملا احمد . ليال تطول وأخرى تطول وبهرز تبقى حكاية الحكايات . ضيف هذا البياض الباحث قاسم محمود صالح يذكر أن ألجواهري العظيم قد زار بهرز في عام 1959 وجرى له مع شاعر العرب الكبير حوار مقتضب عندما التقيا صدفة في وزارة التربية عام 1969 يوضح اعتزاز شاعر العربية بنفسه حد النرجسية وهو حق لعمود الشعر العربي العالي ألجواهري ، ولا تقف الحكايات عند هذه الضفاف المضيئة فلطالما اجتذبت ماسة ديالى أدباء ومفكري العراق وفنانيهم أتدرون لماذا ؟ .. إنها بهرز سجل للحضارة والإبداع يحلم كل مبدع أن يقلب صفحاته وان كان محظوظا فانه سيسجل سطرا في هذا السفر الخالد الذي عنوانه ... بهرز . عليك السلام يا مدينة أحبها أديب أبو نوار ، .. عليك السلام بهرز الحبيبة .