الصفحات

بعقوبة التسعينيات: ثقافة تعاند حصاراً مركّباً : بقلم : سعد محمد رحيم

تسعينيات العراق؛ زمان ملتبس، صعب. وحياة فقدت كثيراً من رونقها ومذاقها، وأكاد أقول؛ ومعناها أيضاً. ونفوس لبست بالرغم منها أردية الوحشة والحيرة. وأفق ضاعت تباشيره في العتمة والدخان. فكان الخوف، وكان الجوع، وكان موسم الهرب الكبير. أما الذين بقوا فكان عليهم أن يخوضوا اللجة المضطربة بزاد قليل، وعناد روح، وأحلام مثلومة، وأمل ضئيل. كان الحصار مركّباً.. ليس اقتصادياً فحسب.. ليس على معدات البشر فحسب.. ليس من الخارج فحسب.. حصار طال الجميع إلاّ باستثناءات. وقطعاً لم يكن الفقراء الذين هم شعب هذه البلاد من الاستثناءات.. كان الحصار هو الأحبولة الأذكى التي وافقت إستراتيجيات القوى الكبرى
الطامعة، وضرورات استمرار السلطة الأوليغارشية الحاكمة في آن معاً. أعرف أن منطق اللغة السياسية، الآن، يضيق ذرعاً بكلمة "مؤامرة" لكني لا أستطيع أن استبعد عن ذهني هذا الاصطلاح الإشكالي المستهلك وأنا أتحدث عمّا حصل، في ذلك العقد القاسي، وعن سابق تصميم وتعمد، للأرواح والعقول والعمران من تشوهات وخراب. وربما كان المراد أن تكون الثقافة العراقية بتراثها وقيمها وإبداعاتها وممكناتها وتطلعاتها هي الأضحية الأعظم في عيد الظَلَمة ذاك. في هذا الفضاء المعتم والخانق كان هناك من يسعى لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، لإشعال شمعة بدل لعن الظلام.. والبحث عن أية وسيلة تحفظ الثقافة ومن ثم الحياة من عوامل التآكل والاضمحلال. كانت بعقوبة كأخواتها من مدن العراق مجللة برماد الحروب، وتعاني من عقابيلها। تكدح من أجل اللقمة التي غالباً ما كانت مرّة، وتحلم بيوم أجمل تحت شمس الله. في تلك الآونة حيث بدأت القيم والأخلاقيات تتفتت عند بعضهم، وتطغى الأنانية والمراءاة عند بعضهم، ويدب اليأس في نفوس معظمنا، كانت ثلة من المهووسين بالثقافة والحياة والعراق يبتكرون، من أجل الآخرين، قبل أن يكون من أجل أنفسهم، مجالهم الحر الخاص॥ جزيرتهم وفردوسهم بين الأنقاض.

1ـ صباح الأنباري:
على الرغم من حمله لشهادة جامعية.. على الرغم من أنه مؤلف مسرحي وناقد، له عدد من الكتب المطبوعة، ناهيك عن مئات النصوص والمقالات والدراسات المنشورة في الصحف والمجلات.. وعلى الرغم من كونه مخرجاً مسرحياً معروفاً في الوسط الفني العراقي. إلاّ أنه بقي عاملاً أجيراً في أستوديو للتصوير لمدة تزيد على الربع قرن. يتنقل من بيت مؤجر إلى آخر مع أسرته ( زوجة وأربعة أولاد ) يكدح من أجل إعالتهم وتعليمهم وتثقيفهم. وهو مملوء بالتفاؤل، مترع بكبرياء حادة، مسكون بشغف فائر بالفن والحرية والحياة. وشخصياً كنت كلما أُصاب بفتور همّة وتتمكن مني الكآبة وأحس بأن الأفق مسدود كنت أذهب إليه فكان حديثه وحواره معي يعيدان إليّ ثقتي بنفسي وبالعالم وبالمستقبل. أخبرني في أحد أيام العام 1995 أنه بصدد مسرحة أربع قصص قصيرة لمؤلفين من ديالى ( محي الدين زنكنة، عبد الحليم المدني، صلاح زنكنة، سعد محمد رحيم ) ثم تكليف أربعة مخرجين، هو من ضمنهم، لإخراجها وعرضها في يوم واحد.. بدا لي المشروع، في حينها، خيالياً، أي غير قابل للتنفيذ. إذ كيف لمجموعة من المثقفين، شبه المفلسين، تغطية تكاليف أربع مسرحيات وإن كانت من ذوات الفصل الواحد؟. بينت له شكوكي، فقال أنهم سيخرجونها بأسلوب المسرح الفقير، أما العاملون ( من ممثلين وفنيين ) فهو واثق أنهم لن يتقاضوا فلساً واحداً. وهكذا كان.. كان مهرجاناً فريداً من نوعه، لم يشترك في إحيائه هو وحده، بل أشرك فيه أفراد عائلته أيضاً. وبالمناسبة فإن عقيلة الأنباري السيدة لميعة الناشئ كانت تعد طاقة كبيرة في مجال التمثيل، غير أن ظروف الحياة الضاغطة حالت دون أخذها لفرصتها التي تستحقها. وأذكر ذات مرة في صيف العام 1997 يوم مثلت الدور النسائي الرئيس في مسرحية محي الدين زنكنة ( يحدث في الخمس الخامس من القرن العشرين ) من إخراج سالم الزيدي وقد تألقت في أدائها واستحوذت على إعجاب الجمهور.. رحت لأهنئها بعد انتهاء المسرحية فقالت: أتدري يا أبا سرمد أنني وقبل أن آتي إلى هنا وقفت أمام التنور تحت الشمس المحرقة وخبزت أكثر من أربعين رغيفاً ( قرصة ) من الخبز. بعد انتهاء عرض المسرحيات الأربع في الواحدة بعد الظهر عدنا إلى بيوتنا، وكنت مع عائلة الأنباري في الحافلة المزدحمة القديمة ذاتها، وكانت أم إباء ( السيدة لميعة ) تتحدث بمرح عمّا يمكن أن تعدّه لوجبة الغداء. في العقد التسعيني، كذلك، كانت هناك أنشطة مسرحية أخرى شاركت فيها أو أبدعتها تلك العائلة الرائعة. وكان صباح الأنباري في هذه الآونة يشارك في إحياء أمسيات أدبية في اتحاد الأدباء، وفي مهرجانات التصوير حتى أُنتخب رئيساً لفرع جمعية التصوير العراقية في ديالى، بعد سقوط نظام صدام. شيء آخر، ولابد أن نذكره للتاريخ. فقد كان صباح الأنباري يقوم، بخطه الجميل، باستنساخ مسرحيات الكاتب الكبير محي الدين زنكنة، يوم لم تكن هناك طباعة على الحاسبات.. كان قادراً على قراءة الخط غير الواضح بالمرة لزنكنة، وفي الغالب كان يحملها بيده، أو يبعثها، إلى جهات النشر. واستطاع بدأبه وصبره وضع أرشيف متكامل لجميع كتابات زنكنة المنشورة في الصحف والدوريات والكتب، وكذلك ما كُتب عنه. فضلاً عن جرد لمسرحياته التي مُثلت في بعقوبة أو بغداد أو المحافظات الأخرى، وحتى خارج القطر. وكان ذلك إنجازاً حفظ كثراً من نتاجات زنكنة من الضياع. في النهاية لم يجد صباح الأنباري بداً، وفي قلبه غصة، من مغادرة العراق إلى أستراليا، بعدما ضاقت به السبل. فلم يحصل من أجل إقامة منزل له على قطعة صغيرة من أرض العراق التي كان يعشقها بصدق عال.. ولم تجر إعادته إلى وظيفته التي تركها في العهد المباد، يوم تعرّض لضغوطات سياسية وأمنية واقتصادية قاسية. وقد غادر البلد، في العام 2006 لمّا باتت أشباح الرعب والموت تجوب طرقات مدينته وأحيائها. تحية للأنباري وعائلته في مغتربهم. والذي، يخيل لي، ( فأنا عرفتهم هكذا )، أنهم منه يرسلون كل يوم نظرهم صوب بلادهم التي لا يعشقون سواها.
2ـ الدكتور فاضل التميمي:
في صيف العام 1992 وحالما بدأت أتردد على مقر فرع اتحاد الأدباء في بعقوبة كلفني المرحوم الشاعر أديب أبو نوار، وكان يومها مسؤول النشاط الثقافي فيه، أن اختار موضوعاً لأمسية للحديث عنه. أعلمته بأن الموضوع سيكون قراءة في كتاب الناقد حاتم الصكر "البئر والعسل" وكان قد صدر لتوّه. فسألني عمّن سيقدمني.. قلت ليست لديّ فكرة. اقترح أن يكون المقدّم الدكتور فاضل التميمي. للوهلة الأولى شعرت بالإحراج إذ اعتقدت أن أستاذاً جامعياً سيأنف من تقديم أديب شاب غير معروف جيداً في الوسط الأدبي. حين أخبرت الدكتور التميمي بالأمر قال؛ هذا شرف كبير لي. ومن يومها عرفت معدن الرجل. في نهاية سني التسعينيات، ومطلع الألفية الجديدة، صار فاضل التميمي مؤسسة وحده، متطوعاً لأداء دور المنشِّط للجانب الثقافي من العمل الأكاديمي لجامعة ديالى. ليقدم، من خلال ذلك، خدمات لا تُضاهى للحياة الثقافية في المحافظة. أقنع التميمي في العام 1999 إدارة قسم اللغة العربية في كلية التربية بجامعة ديالى تدريس مسرحية ( رؤيا الملك ) لمحي الدين زنكنة لطلبة الصفوف المنتهية. وخلال عام كامل انشغل الطلاب والطالبات في الغوص داخل عوالم المسرحية يناقشونها ويؤولونها ليكتبوا فيما بعد أبحاثاً عنها يتناولونها كل بطريقته وعلى وفق رؤيته وثقافته. وفي نهاية السنة أقامت الكلية، بإشراف التميمي، مهرجاناً كبيرا للاحتفاء بالمسرحية وصاحبها، قُدمت خلالها بحوث ودراسات عن المسرحية. ومن ثم اعتلى زنكنة المنصة، أمام الطلبة، ليجيب على أسئلتهم واستفساراتهم، ويتحدث لهم عن تجربته في الكتابة. في العام التالي عمل التميمي الشيء نفسه، وهذه المرة مع رواية ( سابع أيام الخلق ) لعبد الخالق الركابي. يومها، بعد انتهاء المهرجان الذي كان صاخباً للاحتفاء به، جلس الركابي وقد غمرته الدهشة.. قال لي؛ أشعر أن هذا هو أسعد يوم في حياتي. بعد سنة نُقل التميمي إلى كلية اليرموك الجامعة، ليكون عميدها.. وفي هذا الوقت صدرت روايتي ( غسق الكراكي ) فعمل لها ندوة بحوث موسعة في كليته دعا للتحدث فيها مجموعة من النقاد منهم الناقد الكبير الدكتور شجاع العاني والناقد مؤيد البصام وقد شارك فيها، أيضاً، نقاد من ديالى ببحوث عن الرواية. منهم الناقد سليمان البكري والشهيد مؤيد سامي والدكتور وليد شاكر نعاس والدكتور كريم التميمي والمرحوم الدكتور سعد عبد المجيد فضلاً عن دراسة للدكتور فاضل التميمي نفسه. كان الكتاب التالي الذي اختاره التميمي ليكون موضوع دراسة للطلبة مجموعة القاص والروائي أحمد خلف ( تيمور الحزين ). هذا المشروع أثمر في النهاية كتاباً كاملاً وُقّع بأسماء مجموعة مؤلفين ونقاد عن تجربة أحمد خلف القصصية. وبقي الدكتور فاضل التميمي واحداً من انشط أعضاء اتحاد الأدباء في ديالى. ومما يُحسب له أنه بادر مع أساتذة آخرين لإقامة مأدبة عشاء في ذكرى أربعينية الدكتور سعد عبد المجيد ( مصري الجنسية ) في مقر اتحاد الأدباء في السراي القديم ببعقوبة وقراءة سورة الفاتحة على روحه بعد أن توفي في حادث سير بين بغداد وبعقوبة، في العام 2004. في زيارة خاصة لمنزل محي الدين زنكنة وبينما كان يقلّب الكتب والأوراق في مكتبة زنكنة البيتية عثر الدكتور فاضل التميمي على دفتر قديم يحوي على قصص لزنكنة كتبها في بواكير شبابه حين كان في عمر السادسة عشرة والسابعة عشرة.. أخذها التميمي وكتب عنها دراسة قصيرة ليصدرها في كتاب بعنوان ( بواكير محي الدين زنكنة القصصية ). وهكذا استل التميمي من بين الأوراق المهملة أعمالاً لزنكنة كانت في سبيلها إلى النسيان الأكيد، ليعرضها للقراء. اضطر الدكتور الناقد فاضل التميمي إلى مغادرة بعقوبة، وعقله وروحه معلّقان بها، في العام 2006 إلى الكوت خلال عمليات التهجير المأساوية والمخجلة التي لم يعرف لها تاريخ العراق مثيلاً. وهو اليوم يستعد للعودة، ليشارك، مع زملائه ورفاقه، في إحياء وجه بعقوبة الثقافي والحضاري.
3ـ الشهيد مؤيد سامي:
كانت مكتبته، التي أقامها في العام 1996 في دكان صغير، بطرف من سوق بعقوبة، مؤسسة ثقافية قائمة بحد ذاتها.. وفي غضون أشهر قليلة نجح في جذب أنظار عشرات ومئات القراء. وحتى أولئك الذين أصابهم الحصار في الصميم، وكانوا من عشاق الكتاب في ما مضى، عادوا بفضل مؤيد سامي إلى عادتهم القديمة/ القراءة.. أما طلبة الجامعة فقد وجدوا في المكتبة وصاحبها منجماً للمصادر والمعلومات. وكان أساتذتهم، لاسيما في مجالات العلوم الإنسانية والآداب، يوجهونهم نحو المكتبة ليساعدهم مؤيد لا في توفير المراجع والمصادر اللازمة فحسب وإنما في إبداء الملاحظات في كيفية كتابة البحوث، في ضوء المناهج العلمية الحديثة، ومناقشتها. وفي الحقيقة، كان مؤيد موسوعة ثرية في مجالات تخصصية مختلفة بدءاً من النقد الأدبي وحتى القانون والعلوم السياسية والاقتصاد وعلم الاجتماع فضلاً عن علوم الفقه والتفسير والحديث.. كان على اطلاع ممتاز على عالم الفكر والمعرفة، من ماركس وهيجل وحتى سيد قطب وخالد محمد خالد.. مروراً بأعلام الفكر الإنساني والعربي. كان بمقدوره أن يعطيك خلاصة عن فكر ميشيل فوكو وإدوارد سعيد ونصر حامد أبو زيد، مثلما يعطيك خلاصة عن فكر الجاحظ وابن تيمية. وكذلك عن الشعر الصوفي والرواية الحديثة والاقتصاد السياسي وتاريخ العراق القديم والحديث والفلسفة الإغريقية ومدارس الفن المعاصر والترجمة ( كان يتقن الإنجليزية ) وعلي الوردي وطه جسين والشريف الرضي.. عن كتب السحر والتنجيم مثلما عن كتاب نهج البلاغة والمنقذ من الضلال وألف ليلة وليلة، الخ، الخ.. وهذا الخليط من مرجعيات الثقافة أمدّه بطاقة فكرية، لم يستثمرها لنفسه بقدر ما استثمرها من أجل الآخرين. قدّمت بالاشتراك معه، في اتحاد أدباء ديالى، عدة أمسيات تحدثنا فيها معاً عن موضوعات مختلفة وعرضنا بإسهاب قراءات في كتب لم تكن قد وصلت، في حينها، لأكثر المثقفين. أذكر منها ( صور المثقف ) لإدوارد سعيد و ( شاعرية أحلام اليقظة ) لجاستون باشلار و ( نقد الحداثة ) لآلان تورين، و ( نهاية التاريخ ) لفوكوياما. إلى جانب طرحنا لقضايا فكرية تخص الحداثة والعولمة والاستشراق ونظريات الثقافة، الخ. وبالقياس إلى موهبته في الكتابة الأدبية والفكرية، ولاسيما الأخيرة منها لم يكتب مؤيد سامي كثيراً، ونشر مما كتب أقلّه. كان يقول لي كلما ألححت عليه كي يكتب، وهو نصف جاد ونصف مازح؛ "النشاط الثقافي الحقيقي هو القراءة". كانت متعته في القراءة والكلام عمّا قرأ والتعقيب على الأفكار الواردة في الكتب. هو أول من أدخل كتب الاستنساخ إلى ديالى وروّج لها، وجاء بجهاز استنساخ إلى مكتبته فاستنسخ عشرات الكتب بمئات النسخ حتى أرهق جهازه، وعطّله مراراً. وكانت أغلب تلك الكتب من الممنوعات بمعايير النظام السياسي القائم. وكان يأتي إلى مكتبته لأسباب شتى مثقفون وأدباء وطلبة وأساتذة جامعيون وباحثون ورجال دين.. شيوعيون سابقون ونهلستيون وملحدون وشكاكون ومتدينون ومتعصبون دينيون ( سنة وشيعة ) ومسيحيون وبعثيون ورجال أمن.. منهم العقلاء ومنهم من هم أنصاف مجانين ومعقّدون نفسياً وفضوليون. ومنهم الحالمون بالمجد والمتفيقهون والمتبجحون والأدعياء. ومنهم موهوبون أو أشباه موهوبين. ومنهم الأميون وأشباه الأميين الذين يسألون عن جدوى الكتاب في الزمن الأغبر.. الخ.. خليط عجيب يشكل جزءاً مهماً من الفسيفساء الديمغرافي والثقافي والسياسي للمدينة. وكان مؤيد يستوعبهم جميعاً، حتى ظنوا جميعاً أنه صديقهم المقرّب. وقد يستغرب القارئ غير العراقي أو المنفي والمهجّر أن مؤيد، في تلك الحقبة السريالية، راح يُعير كتباً ممنوعة تتحدث بالضد من النظام حتى لبعض من رجال الأمن والحزب والسلطة، بعد أن أثّر فيهم أو أطمأن لهم.. يقرؤونها خفية ويعيدونها شاكرين. وقد أستدعي مؤيد مرتين إلى دائرة الأمن، مرة لأن مكتبته غير مرخّصة، ومرة لأن مفتشاً عثر على كراسة عتيقة عن حياة فهد، ولحسن الحظ، كان في كومة من الكتب على الأرض، ادّعى مؤيد أنه بصدد بيع الكومة كلها لباعة ( الحب شمس ). وبقيت أخاف على مؤيد الذي لم يكن محترساً جداً كما يتطلب الأمر. وكنت أتوجس خيفة كلما دلف إلى المكتبة رجل غريب. أو كلما مررت بمكتبته ووجدتها مغلقة. في العام 2003 وبعد سقوط نظام صدام واحتلال العراق اضطر مؤيد إلى إغلاق باب مكتبته، بعدما عجز عن توفير إيجار محله وقوت عائلته.. كانت تلك سنة انعطاف صعبة، انصرف الناس فيها إلى أشياء غير القراءة واستعارة الكتب أو اقتنائها.. وأخفق بالرغم من محاولاته في إيجاد وظيفة له أو لزوجته على الرغم من حملهما لشهادة جامعية. فاشتغل في الصحافة، ومن ثم أصبح عضواً في مجلس المحافظة حتى طالته رصاصات الغدر في يوم كئيب من شهر كانون الثاني 2005. يومها تذكرت مقولة لينين في رثاء أنجلس: "أي مشعل للفكر قد انطفأ؟. أي قلب توقف عن الخفقان؟". ذلك جانب مختزل من صورة النزوع الثقافي لأبناء بعقوبة في تسعينيات القرن الماضي ومطلع الألفية الثالثة.. قصة يجب أن تُروى تفصيلاً من أجل التاريخ والجيل الآتي.