الصفحات

نجمة البتاوين.. مرجعية الواقع ومقتضيات الفن الروائي / سعد محمد رحيم


تفضح رواية ( نجمة البتاوين/ منشورات دار المدى ــ دمشق 2010 ) لشاكر الأنباري، ما يسكت عنه التاريخ المدوّن.. تنقل ما يراه الروائي ويعجز عن رؤيته المؤرخ التقليدي، أو لا يعدّه هاماً وضرورياً للأرخنة. فالروائي يهبط هنا إلى القاع، يتحرك في الهامش، ويسرد لنا قصة الضحايا؛ وقود أية حرب أو جائحة سياسية، أو منعطف تاريخي حاسم. وبحسب تعبير ألبير كامي؛ "إنه يهتم بمن يعانون من صنع التاريخ أكثر بكثير من اهتمامه بمن يصنعونه".. إنه لسان حال أولئك المغلوبين على أمرهم، الخائبين والمقهورين، الذين لا حول لهم ولا قوة، المنتمين إلى البرجوازية الصغيرة المهلهلة، الغارقة في التفاهة، والعاجزة. أو إلى تلك الشريحة الرثة ممن يبحثون عن لقمة الخبز بأية وسيلة ( شريفة أو غير شريفة )،
ويمضون أيامهم في خوف وحيرة وفاقة. والعالم الذي تنطوي عليه رواية ( نجمة البتاوين ) قاتم، يبعث على الكآبة واليأس، ولا تكاد تظهر فيه كوّة للخلاص، أو أثر يمكن اقتفاءه للخروج من حالة الخراب التي ينجح الروائي في تصويرها، وتقديم الدراما المؤسية الخاصة بها. فهو في هذه الرواية إذ يؤرخ للوجع العراقي إنما يحكي قصة البؤس الإنساني في كل زمان ومكان. ( نجمة البتاوين ) رواية شلّة من الصحافيين ( وأصدقائهم ) يعملون في صحيفة السلام، توجهها علماني ليبرالي. يؤجرون شقة في منطقة البتاوين، وسط بغداد. وهي قريبة من موقع صحيفتهم، يمضون فيها أوقات فراغهم بالثرثرة ومعاقرة الخمر، ومعاشرة عاهرة اسمها أحلام. "نجمة البتاوين، الاسم السرّي لمضاجعة النساء واحتساء الكحول ونقد الوضع وقراءة الكتب" ص65 ، هذا ما يخبرنا به السارد العليم، الذي يتدخل في مواضع كثيرة من الرواية بشكل سافر، يضر، أحياناً، بالجانب الفني من النص. شخصيات الرواية سلبية، على الرغم من أنها تعمل في مجال الإعلام، ويُفترض أنها تؤثر في الرأي العام ومسار الأحداث. لكنها عموماً تشعر بالعجز واللاجدوى. وبأن الواقع أقوى منها بكثير.. يسترجعون ذكريات حلوة قديمة، ويخون المتزوجون منهم زوجاتهم من غير أية ذرة من تأنيب الضمير. ويأسفون لأن الرياح لم تجر مثلما اشتهت سفنهم. وفي النهاية بعد تجربة اختطاف مريرة يلوذ عمران ( المهندس والمقاول ) بالدين. وينصح صديقه زاهر ( رئيس قسم المنوعات ) بالمغادرة ثانية وألا يلتفت وراءه أبداً لأن لا حياة كريمة، ولا بارقة أمل، في هذه البلاد الملعونة!. وهذا ما سيفعله زاهر حين يقرر المغادرة إلى المجهول، تاركاً وراءه كل شيء؛ الصحيفة والأصدقاء وعشيقته سهى ( الصحافية ) ومراتع الصبا والشباب. ويرضخ كل من علي وربيع ( الصحافيان ) لحظوظهما، وهي قليلة. ويموت أبو حسن ( الكتبي ) في أثناء تفجير شارع المتنبي. أما سهى فلا يمنحها الروائي فرصة بث وجهة نظرها على الرغم من أنها شخصية دينامية مثقفة ومتحررة. وكان يمكن أن توازن ولو قليلاً الثقل الذكوري للرواية، لو أنها حازت على تلك الفرصة. وباستثناء صفحات معدودة مشرقة، وإن كانت موهومة، فإن أغلب فصول الرواية مقبضة للنفس تحكي عن الفقر والنفايات في الأزقة والشوارع، والخراب، والانحراف الأخلاقي، والموت المجاني في الطرقات، والعصابات والميليشيات التي تسيطر على مناطقها، والسيارات المفخخة والعبوات الناسفة وقصص الاختطاف والقتل وساعات منع التجوال وانتشار المخدرات والدعارة. وكأننا في الساعة الخامسة والعشرين حقاً، تلك التي صوّرها كونستانتين جورجيو في روايته الشهيرة التي تحمل الاسم ذاته، حيث فات الأوان على فعل أي شيء، ولم تعد هناك فرصة للخلاص حتى وإن جاء المخلِّص نفسه!. تتحدر شخصيات الرواية الرئيسة من الطبقة الوسطى المثقفة التي سحقتها الغربة ( المنفيون منهم )، أو الحصار ( ممن بقوا في الداخل ). وهي الشريحة التي انسدت أمامها الآفاق فراحت تستسلم وهي ترى وضعها الاقتصادي والاجتماعي ينهار، تحت وطأة ظروف قاهرة. وتختار ذلك المكان، غير الآمن تماماً، والقلق، من أجل أن تتوه في السكر، هاربة من واقعها المأساوي والمرير. وهي هنا تشبه إلى حد بعيد شخصيات رواية "ثرثرة فوق النيل" لنجيب محفوظ في هربها من حالة الصحو إلى الغرق في المخدرات، فيما الواقع الخارجي من حولها يسير نحو الكارثة. يستخدم الروائي ضمير الغائب القريب كما تسميه نانسي كريس في كتابها ( تقنيات الرواية ). وهذا النوع "لا يقل قرباً من رأس الشخصية عن ضمير المتكلم. فكما هو الحال مع ضمير المتكلم، يعرف القارئ كل ما تفكر فيه الشخصية، ويشعر بما تشعر به مباشرة". وبذا فإن أفكار ومشاعر شخصيات وجهة النظر تكون جلية وعارية أمام القارئ. ووجهة النظر بحسب تعريف كريس أيضاً هي "بعيني من نرى الأحداث، ومن خلال رأس من، ولمن هي المشاعر التي نشارك بها الشخصية؟". أي أن السارد يدنو بما يشبه التقمص من شخصية ما من شخصيات الرواية، أو عدداً من الشخصيات، بالتتابع، ليصوّر لنا الوقائع الدرامية لروايته ويصف أمكنتها.. هنا يجب أن يكون الروائي حذراً وهو يتنقل من وجهة نظر إلى أخرى. ويقع كثر من الروائيين العرب في هذا المطب، والذي لا ينجو منه الأنباري في روايته التي نحن بصدد قراءتها. ففي الصفحتين 149ـ150، في سبيل المثال، يتنقل الروائي في وجهة النظر بين علي وزاهر وسهى، ويدخل رؤوسهم الواحد تلو الآخر. وقبل ذلك في الصفحة 99 يقفز السارد من وجهة نظر زاهر إلى وجهة نظر علي ليكمل بعد صفحتين الفصل التالي مع وجهة النظر ذاتها. وكان يمكن بدء الفصل الجديد مع تلك القفزة، كي لا يضطرب السرد. وأحياناً يختل المنظور عند الروائي أو يرتبك. وما أقصده بالمنظور في هذا التفصيل هو؛ من أي زاوية يرى السارد المشهد المكاني، وكيف؟. أي؛ أين يقف، على وجه التحديد، وهو ينظر إلى الشواخص المكانية؟. ومن حقنا أن نحاكم الروائي على أي خطأ، أو حالة لا معقولة في هذا الجانب، لاسيما وهو يتحدث عن أمكنة واقعية نعرفها على الخريطة والطبيعة في الوقت نفسه. وكذلك حين لا تكون روايته ذات طابع فانتازي تصور أناساً خارقين يرون من وراء الحجب. فكيف يمكنك، مثلاً، رؤية "مدينة الثورة وحي الشعب وملعب الشعب" من سطح دار بطابق واحد في شارع فلسطين ص 20، أو أن إبصار نهر دجلة من سطح دار صغيرة في منطقة الطالبية ص 64. أو مشاهدة مبنى الإذاعة والتلفزيون في الصالحية من مطعم في شارع أبي نؤاس ص150. وفي الصفحة 56 وبينما نجد شلّة نجمة البتاوين يجلسون في نادي اتحاد الأدباء يصف لنا السارد ساحة الأندلس القريبة من مبنى النادي. ولا ندري بعيني من، طالما أن أياً من أصحاب وجهات النظر في الرواية لم يغادر مكانه المحجوب عن الساحة!. قليلة هي الروايات العراقية التي جعلت من التاريخ العراقي القريب، ولاسيما بعد سقوط نظام صدام واحتلال العراق، مادة لها. و( نجمة البتاوين ) تنتمي لهذا النمط. وقد استطاع كاتبها حشد قصص ومرويات تشكل بانوراما صاخبة، ومدوّنة حية عمّا جرى في هذه البقعة من العالم، وفي فاصلة زمنية عسيرة. وعبر رؤية استثمرت تقنيات وأنساقاً سردية عديدة؛ ] تتابع، تزامن، استعادة ذكريات، استخدام وجهات نظر مركبة أحياناً؛ ضمير الغائب وضمير المتكلم. فضلاً عن التقرير الذي كتبه عمران حول اختطافه وسلمه لزاهر ( لماذا يسمّيه تقريراً؟! )، الخ [.. هذه التقنيات والأنساق تفصح عن مقدرة الروائي في السيطرة على عالمه، على الرغم من الملاحظات العابرة التي ذكرناها، والتي لا تقلل بأي حال من الأهمية الوثائقية للرواية، وقيمتها الإبداعيةحقوق النشر محفوظة ولا يجوز إعادة نشر أي مادة إلا بالإشارة إلى المرجع المواد المنشورة في الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تلزم الناشر بأي مسؤولية