لكل مدينة ذاكرة ... وفي بعقوبة أشخاص شعبيون عالقون في الذاكرة الوجدانية الحية، وهم يمثلون عوالم هذه المدينة الوديعة والتي حاول الاغراب والقتلة تدنيسها بشتى الاساليب، وكان أهالي بعقوبة يسألون الغريب الذي يَدّعي انه من أهلها...هل تعرف فلان أو فلان ؟ فإن أجاب بلإيجاب فيتحدث عنهم ونوادرهم، وإن لم يعرف فليس هو من أبناءها الاصول. ومن هؤلاء وجوه معروفة من أبناءها النجباء ولكن أغلب هؤلاء الشخوص من المعدمين والمهمشين وليس الجميع بالطبع.
1ـ حسن وهابي...من شخوص بعقوبة الطريفة ومن أخيارها ومن عائلة عريقة في بعقوبة، ويعمل خياط، وفي ذات يوم توفي ّ أحد أباء أصدقاءه هو أبو هادي سينبيلغ ويدعى صالح وكان المتوفي رجلٌ أُميّ لايقرءْ ولايكتبْ وعمره ناهَزَ العِقد الثامن ، وفي تشييع الرجل المسن صالح بدء يبكي ابنه هادي ويقول ...يابا خذني معاك ويكررها… فألتّفتَ إليه حسن وقال له{ أَخل أَخل قابل هو رايح للسينما ياخذك معاه}، وبعدها كان مجلس العزاء فدخل حسن وهابي مجلس الفاتحة وكان الحاضرون من أصدقاءه وجلس وقال{ ياجماعة تعبت من قراءة الفاتحة ...سأقرء الآية تَََبَّتْ يَدى }، وفي نهاية مجلس العزاء ذهب الى صديقه هادي سنبيلغ ليواسيه بأبيه فقال له:{ البقاء في حياتك...ولو المسكين فقط مْخلّص الابتدائية كان أفضل} فما من هادي الاّ وشتمه وهو في غاية الحزن والغضب، رحمةُ الله عليهما.
2ـ وليد الشيباني...هو من أبناء قرية الهويدر النجباء وسكنت عائلته منذو زمن بعيد في بعقوبة الجديدة، شجاع يدافع عن الشيوعيين من إعتداءات البعث والأمن المتكررة، وقد أنقذني ذات مرة من رجال الامن ، وقد قطع سلك التلفزيون في المقهى الموجودة في المحطة وكان خطاب للدكتاتورالمقبور، وخرج جميع من في المقهى خوفا من العقاب. ويهوى وليد الشيباني جمع المَسْبَحَاتْ ويحب
الغزلان ، وعائلته ميسورة الحال ويمتلكون البساتين سابقا، وكان احد أقاربه وزيرا للتخطيط هو طلعت الشيباني ابان عهد الزعيم الشهيد عبدالكريم قاسم، وكان كثير من الصبايا والاغراب يعتقدون انه أجنبي كون سحنته بيضاء وشعر رأسه ولحيته حمراء، وكان يفعل مع الغريب مقالب مضحكة، كأن يضع مجموعة من النقود بيده لكي يأخذ صاحب المقهى سعر الشاي أو العصير وعندما يأخذون أكثر من السعر الحقيقي ظنّا منه إنه أجنبي أوربي،يصرخ به بلكنة ولّهجة عراقية محببة، وكثيرا ما يتغزلن بهِ الصبايا الطالبات من الاقضية البعيدة كخانقين وشهربان ، إعتقاد منهنّ انه لا يفهمهم ولكنه يُفاجئهنّ بعبارات رقيقة تََجْعلهنّ يَخجلنّ ويهربْنّ بسرعة. وفي ايام الحصار اللعين لفقت له تهمة اقتصادية كادَ أنْ يعدم ولكن حُكِمَ عليه بالسجن، وبعدها خرج. والتقيت به بعد2003 وكان سعيدا ،ولكن في الّهجمة الظلامية الاخيرة في بعقوبة أصيب بطلقة في قدمه، وسمعت انه توفى في هذه السنة فتألمت كثيرا عليه فهو حقا علما من أعلام بعقوبة الاخيار.
3ـ كشوكى أبو راسين...سميّ أبو رأسيين لان رأسه طويل ومستقيم وفي وسطه خسفة ولذا يتبادر للذي يراه انه برأسين وهو دائما يحلق نمرة صفر{أقرع}، وكان كشوكي يعمل قصاباَ ولكنه لا يملك محل أو دكان وكان يَطلبُُ الاهالي منه الذبح في بيوتهم، وله مجموعة صغيرة من الاغنام، وكان يسكن في السلم الذي بجانب مقهى ابو ليث في العنافصة، ويضع أغنامه فوق السطح، وكان هناك من يمازحه ويسرق أحد أغنامه في الّيل ويبيع له الخروف صباحا وهو لا يميزه ولا يحسب أغنامة في أكثر الاحايين .
ومن الحوادث الطريفة لكشوكي انه كان ذات يوم في بغداد وفي بداية سبعينيات القرن الماضي ...أراد العودة الى بعقوبة من كراج السيارات وكان الكثير من الركاب ينتظرون السيارة ذات الثمانية عشر راكباَ، ولم تكن هناك سيارات في الكراج وبعد مدة ليست بالقصيرة جاءت ثلاث سيارات في آن واحد، فركب كشوكي في السيارة الاولى وجلس بجانب السائق وجلس بجانبه كذالك أحد وجهاء بعقوبة ومن أغنياءها هو صادق أبو جلود* وبعد ان إمتلأت السيارة بالركاب ، نظر صادق أبو جلود بإشمئزاز الى كشوكي ورائحة اللحم والدم في دشداشته قال للسائق... ما هذا انزل هذا الرجل ذو الرائحة الكريه من السيارة ، عندها سأل كشوكي السائق كم اجرة الركاب جميعا فأجاب السائق دينار و800 فلس، لانه اجرة الراكب 100 فلس ، فقال له كشوكي أعطيك 3 دنانير وأ َنْزِلْ الركاب جميعا ، فوافق السائق على الفور وقال للركاب إنزلوا فالسيارة محجوزة أو مؤجرة سلفا، لم يكتفي كشوكي بذالك فذهب للسيارتين الواقفتين خلف السيارة الاولى وأعطى للسائقين كل واحد منهما 3 دنانير، وأخذ السيارات الثلاثة فارغة من الركاب الى بعقوبة وسط دهشة الركاب الذين بقوا في الكراج ومعهم صادق أبو جلود وفي الطريق بين الفينة والاخرى يخرج رأسه الطويل من الشباك ليتأكد أنّ السيارتين الأ ُخر تسير خلفه الى بعقوبة.سمعت بعدها بسنونٍ مضت ان أحد الاعراب أراد ان يشتري منه أغنام لكنه غدر به قرب ملعب الادارة المحلية وطعنه بسكين فأرداه قتيلا ظّنا َمنه انه يمتلك نقود كثيرة...رحمة ُ الله عليه.
* هناك من يقول الرجل الذي جلس بجانبه أحمد الخفاجي أحد وجوه البعث سابقا، ومنهم من يقول رشيد مطر أحدأبرز المشرفين الرياضين هو ومحمود عيشة طويل القامة.
4ـ أبو أسعد...هو من عائلة معروفة في بعقوبة و كان هذا الرجل يملك محل لبيع الطيور في سوق المعيدي وأغلب هذا السوق هم بائعو الطيور وفيها مقهى يجلسون فيه رواد هذا السوق وبائعو الطيور، وكان ابو أسعد في ستينيات القرن الفائت من الذين يدخنون الحشيش ويبيعه أحيانا، وذات يوم إشتكى جندي عليه في المحكمة بعدما مسك وهو يدخن الحشيش وقال إن الذي ابتاع منه الحشيش هو أبو أسعد فسأله الحاكم هل انت الذي بعت له الحشيش، فنظر له أبو أسعد وهوبنصف وعيه وكان قد دخن الحشيش لتوه، فأجاب ابو أسعد... سيدي الحاكم: أنا بعت لكل الجيش العراقي الحشيش ولكن هذا الأبن ...الأوادم...لم ابع له الحشيش.
5ـ أبو الكِشْ...هذا الرجل من المعدمين وكان اهالي بعقوبة يساعدوه وكانوا يطلبون منه السخرة[عمل بدون أجر] ، وهو كان مدمن خمرة ليل و نهار وينام في محل غازي السعدي وربما يمت بصلة قربى من غازي او بجانب المحل، وهذا الرجل كانوا يمازحوه كثيرا ويستفزوه فيجيب كلمته الشهيرة ...يابا دكِش ، توفي أوائل سعينيات القرن المنصرم.
6ـ عامر مهدوني... هذا كان معي في مدرسة بعقوبةالابتدائية، وكان مشاكسا جدا ولكنه طيب، وذات يوم سمعنا ان عبد السلام عارف سقطت الطائرة التي يستقلها ومات،فأُحتِسبَ يوم وفاته عطلة رسمية ، لكن عامر مهدوني ومعه فريد عباس قجوا قادوا مظاهرة في المدرسة وخرجنا نقول ... فلسطين عربية فالتسقط الصهيونية ، وذهبنا الى مدرسة الازدهار النموذجية للبنات قرب بيت المتصرف [المحافظ حاليا] وقرب مدرسة الخالدية، فَسَمَعتْ المديرة بالمظاهرة القادمة فأغلقت باب المدرسة وإتصلت بالشرطة فقفز عامر من السياج هو وفريد وفتحوا الباب وتظاهرنا داخل باحة المدرسة والمعلمات أغلقنّ الصفوف، الاّ أن سمعنا بمجئ الشرطة فهربنا وعامر معنا الى مدرستنا. وعامر معروف في سوق بعقوبة بصيحاته وصوته المميز الرفيع ولم يكمل المدرسة لكنه احد الوجوه الشعبية في بعقوبة، سمعت ايضا انه كان واقف على سياج نهر خريسان وكان أحد أصدقاءه يمازحه ويقرّب سيارته من عامر ولكنه أخطأ ودهس عامر وحصره بين السياج والسيارة فتوفى ...رحمة ُ الله عليه.
7ـ فؤاد عيدان... هذا من شخوص بعقوبة الودودة ومن عائلة معروفة، ولأسباب أجهلها اصبح مدمن بالكحول في سبعينيات قرن العشرين، وقوله لاأبناء الولاية الشهير...حبيبي انطيني فد عشرة، والمقصود عشرة فلوس لكي يجمعها ويشتري ربع عرق، يقال انه نفي الى خانقين ولم يسمح له بالعودة ولا أعرف مصيره حد الساعة.
8ـ أبو طوكان من أهالي محلة المنجرة وعمل كادحا في السوق، وكان له كلب أسماه موسكو ويعيش متسكعا وينام في حديقة الملاصقة لنهر خريسان الخالد وكان مدمنا ايضا وكان يشرب هو والكلب ويطعمه من طعامه.
9ـ سعد سويدة...من أبناء محلة السوّيدية ومن عائلة كادحة، وسمي سعد سويدة نسبة لإمه سويدة، وهو من شجعان هذه المدينة. وقد إحتضن اليسار العراقي الفقراء والمهمشين ومنهم سعد وكنت أعطيه صحيفة طريق الشعب ويدفع هو التبرعات،وكان يدافع عن اليساريين من أعتداء رجال الامن والبعثيين، وكان بناء جسمه قوي ومتين، وفي ليلة مشؤومة دخل سعد بيتهم وشاهد أخيه يضرب زوجته اي زوجت أخية بقسوة مفرطة ، فحاول سعد الدفاع عن هذه المرأة المغلوب على نفسها ونَهَرَ أخيه وضربه ، ولكن رد فعل اخيه الأهوج جعله أن يسحب سكين من المطبخ ويطعن سعد ، فخرج سعد والدم ينزف منه الى خارج البيت وفارق الحياة، وكان سعد يسهر معنا في نادي الموظفين أحيانا، وكنا نشتاق له احيانا فنخرج من النادي ونذهب الى مثواه الاخير في الشريف ونسهر معه.
10ـ ستار بلدية...من الشخوص الشعبية في المدينة وكان عامل في بلدية بعقوبة، وكنا نلعب معه لعبة المحيبس في رمضان، ويمتاز هذا الرجل بالفراسة العالية لا يجاريه أحد، وأتذكر كنا نلعب في فريق العنافصة أزاء فريق المنجرة، وكان بفراسته يجد الخاتم رغم الذين معهم المحبس لهم خبرة طويلة في إخفاء المحبس من خلال مجموعة صغيرة من المحترفين ذوات السحنة الداكنة السمراء.وفي إحدى المرات قال ستار الذي بيده الخاتم فاليصيح بات، لأنه لم يكتشف الخاتم أو المحبس وفعلا لم يعلن احد ان المحبس بيده، فأكتشفوا ان المحبس ساقط على الارض،وفي مرة أخرى أبقى ستارلاعبين وقال الاثنان معهم محبس، فأكتشفوا هناك غش بإعطاء للاعبين كل منهما محبس ،وإنْ أ ُكتشفَ أحدهم فالأخر يصيح بات ليغطى على صاحبه.
ملاحظة:
وهناك في بعقوبة...نسوة ، معروفات على الصعيد الشعبي وأغلبهن من المعدمات ومنهنّ...نشمية الكسيحة{المكَرْمَة}...حسنة ملص...كافي...بسعد ام الروبة... ريم ام السكائر وكانت تجلس مقابل سينما النصر وكنت أسألها أنا ومحمد نونية السؤال التقليدي...ريم عندك جكاير ريم فتجيب بالنفي ، وغيرهن ولا يسعني في هذه السطور ان أذكر كل شخوص بعقوبة الشعبيون. وسأكون شاكرا لمن يضيف أو يصحح فكل المعلومات هي من الذاكرة وعسى أن أكون قد أوفيت لمدينة البساتين ... بعضا من شخوصها...ولأبناءها النجباء