الاشتغال إشارياً على ظرفية الـ(هنا) و الـ(هناك): أسس قاسم مطرود رؤياه دراميا في مجموعته(الجرافات لا تعرف الحزن) على عالمين متباينين، الأول واقعي يفضي إلى آخر تخيلي، والثاني ذاكراتي يلتحم مع الأول كمنجز له، وينفصل عنه ككيان مستقل قائم بذاته وتتحكم بهما موجهات فكرية ودرامية تتساوق مع طبيعة الخطاب المسرحي في كل منهما، وتتحدد من خلالهما طبيعة(الثيمات) التي اشتغل عليها في أغلب أعماله إن لم نقل كلها. فالحضور والغياب، والانتظار والعودة، والحياة والموت ثيمات ثنائية انتقلت شخصياته بينها، وتذبذبت أفعالها بين واحدة من تلك الثنائيات أو أكثر ضمن النص
الواحد أو مجموعة النصوص كلها. بمعنى
آخر أن قاسم مطرود يحرك شخوصه داخل النص ضمن حدود عالم داخلي صغير قريب(هنا) يعرض فيه أفعالهم الأساسية، وآخر خارجي كبير بعيد(هناك) داعم لتلك الأفعال في حالتي التحام العالمين، معا، أو انفصال أحدهما عن الآخر ففي مسرحية (للروح نوافذ أخرى) نجد عالمين كل واحد منهما سمي بواحد من اسمي الإشارة هنا و هناك. تقول الأم: "ما جئتم بي إلى هنا إلا لضلالتي وزيادة عتمتي كأني لم ادخل إلى هنا من قبل" إن عالم الـ (هنا) الموجود واقعيا عالم دمرته الحرب وطاله خرابها، وتفشّى ذلك الخراب حتى طال حياة الشخصيات الرئيسة وحطم نفوسها، وعزز فيها لوعة الانتظار السقيم فالأم على سبيل المثال امرأة غيبت الحرب ابنها وفرضت عليها انتظاره سنوات طويلة تحولت حياتها، خلال ذلك، إلى ظل للحياة بعد أن فقدت ذاكرتها. وإن الذاكرة التي تعمل على وفقها الآن تربطها بذلك العالم البعيد بخيط واهن جدا محيلة عالم الـ(هنا) إلى غربة دائمة لا تنجح محاولات الإبنة في تخليصها منها بغية التعرف على ابنها العائد من الأسر والذي تحولت صورته إلى كيان مشوه لا يمت بصلة إلى صورته المحفوظة في الذاكرة، وهنا يتفاقم الشعور بالاغتراب ويتحول اللقاء إلى مفترق طرق بعد أن اعتقدت الأخت/الابنة انه سيشكل صدمة مضادة تعيد لأمها ذاكرتها المفقودة لتستطيع بعد هذا أن تعيش (هنا) مثلما كانت تعيش (هناك) تقول الأم في موضع آخر من النص: "يا لحزني إني لا اذكر الماضي وان قبلت الفكرة فلا أستطيع أن أحس بكما مثل أبنائي لأنني ما زلت أعيش الغربة هنا" الـ (هنا) إذن لا تلتقي عند الأم بالـ (هناك) وبهذا تفشل كل محاولات الابنة والزوجة في حبك لحمة اللقاء بسداه. ويشتمل عالم الـ (هنا) على شخصيات أخرى كالزوجة والأخت وهما شخصيتان مأزومتان ترتبطان بعالم الزوج/الشقيق البعيد الغائب(هناك) بروابط اجتماعية تكتسب قداستها من العمق الإنساني النبيل لهذه الروابط. وهما تحفظان في ذاكرتيهما صورة الغائب الذي أبعدته الحرب فعقدتا الأمل على تغيير حياتهما(هنا) حال عودته من(هناك). تقول الأخت آملة: "انه سيعود..تحيطه الهالة وعلى كفيه جوهرته البراقة التي ستوقظ الميت الحي" وتستعد الزوجة لاستقباله وهي بأجمل حلتها وزينتها: "شئ حسن، شعري ينسدل على كتفي دون عناء، فقد نسيت كل مستحضرات التجميل يجب أن لا اتركه مجعدا أريده هكذا منسابا على كتفي" وتصطدم كل هذه الاستحضارات على صخرة البرود العاطفي الذي لف العائد من(هناك) واللامبالاة التي وصل إليها وبلادة المشاعر التي جعلت منه إنسانا آخر أو ظلا لإنسان كانه يوما ما. لقد عاد ليضع نقطة في نهاية سطر الحياة فيغلق باب المحبة في وجه شقيقته التي اعتقدت، طوال غيابه، أنه يحبها وأنها ما عاشت إلا على هذا الأمل. ويدفع بزوجته إلى يأس يفقدها الإحساس بالحياة فتضحك ساخرة من قدرها: "من يثبت بأننا أحياء وان هذه اللحظة مستمرة" أما أمه فتعلن أنها أكثر غربة(هنا) وأنها لا يمكن أن تشعر بوجودهم كأبناء لها وكأن كل ما حدث كان هباء في هباء، وعبثا في عبث، وفي هذا دلالة تكاد تكون واضحة عما آلت اليه حرب شاء مرتكبوها أن تستمر طويلا لتكون محصلتها النهائية الرجوع إلى البدء والتنازل عن كل شئ لم يريدوا التنازل عنه بعنجهية مخادعة وبسالة زائفة وأفكار تمويهية وكأنني بقاسم مطرود يريد أن يقول: أليس من العبث أن نبدأ حربا من اجل شئ نتنازل عنه في نهايتها ؟! أما الشخصيات الأخر كشخصية ذان وايان فهما تمثلان حلقة الاتصال بين الـ (هنا) والـ (هناك) فضلا عن تدخلهما في سياق الحدث وتماهيهما مع بعض الشخصيات. وهما شخصيتان غير موجودتين واقعيا ابتكرهما الكاتب للضرورة الفنية حسب. وفي مسرحية (رثاء الفجر) هناك عالمان أيضا، عالم الموتى(هنا) وعالم الأحياء(هناك) يتصل بعضهما مع بعض بوشائج كثيرة تقرب المسافة بينهما ولا تترك إلا خيطا رفيعا واهيا، كحد فاصل بينهما، وقد ضغط قاسم مطرود أولهما في مساحة صغيرة جدا هي هذا العالم الصغير(هنا) بالعالم الفسيح (هناك) عن طريق شخصيتي الدفان الأول والدفان الثاني اللذين يعملان كهمزة للوصل بين عالم الأحياء الذي ينتميان إليه وبين عالم الأموات الذي يعملان على تهيئته لاحتواء تدفق قتلى الحرب وموتاها. وكما عاشت شخصيات المسرحية الأولى حالة انتظار طويل سقيم لابنهم الأسير، تعيش الشخصيات هنا حالة انتظار أيضا لا لكي تصل إلى مفترق الطرق كما حدث في المسرحية السابقة ولكن لتصل إلى ملتقى الطرق الذي سوف يجمعها تحت سقف الموت الواحد ليواصل كل منهما مشقة الانتظار ثانية على أمل حلول عيدهم الذي ربما سيوفر عليهما بعضا من الشقاء والعناء. فهما يأملان، على الدوام، أن يلتقيا فيه مع ابنهما الذي أخذته الحرب إلى البعيد الذي(هناك). ويتدخل قاسم مطرود، مرة أخرى، ليعمق إحساسنا بحجم الفاجعة بعد أن جعل الزوجة تهجر عالم الأحياء وتدلف إلى عالم الموتى آملة أن تسمع صوت ابنها أو تراه يهب لاستقبالها فتفاجأ بغيابه ثانية ثم تعرف انه ذهب "يتفقد أصحابه ممن شاركوه الحياة. أحدهم مات بعد موته بعام لكنه بقي في الأرض الحرام حتى تفسخ جسده (برهة) أشهر طويلة وهما يلملمان ما تبقى من العظام ويبحثان عن الأجزاء المفقودة فقلبه في بطن نسر وعينه ابتلعها غراب وأطرافه تقاسمتها الكلاب وما تبقى كان من حصة ديدان الأرض" وبعد هذا الانفصال شبه التام بين العالمين يعود قاسم مطرود ليربطهما مع بعض عن طريق دخول الدفانين وبعض زوار المقبرة وقراءتهم لسورة الفاتحة ترحماً على روح المرأة التي ماتت واقفة يوم أمس بعد أن أكملت صيام شهر رمضان. لقد اخترقت الرصاصة جسد الابن ثم مات الأب حزنا عليه ثم ماتت الأم/الزوجة حزنا عليهما، وبذا تكون الشخصيات الرئيسة (الواقعية) قد رحلت جميعها إلى العالم الآخر، إلى عالم الموتى، وهو العالم الذي تدور فيه أحداث المسرحية ويرتبط بوساطته الدفانان بعالم الأحياء بعد أن قلبت المعادلة وتحولت الـ (هنا) إلى الـ (هناك). إن وظيفة الدفانين تلخصت في توفير ممرات الدخول إلى العالم السفلي بشهادات وفاة تراكمت بعضها فوق بعض وغطت بتراكمها مساحات كبيرة من المكان. لقد ألفا المقبرة حتى صارت ملاذهما الهادئ. فيها يقيمان وينامان بعيدا عن زعيق الزوجات والإهانات والشكوى فلا أحد يزعج أحد هنا ذلك لان الموتى لا يسبون ولا يزعقون. لقد صارت الحياة بالنسبة لهاتين الشخصيتين لا تختلف كثيرا عن حياة المقبرة بعد أن عقدا تحالفا غير معلن مع الموت. إنهما شخصيتان تكميليتان مبتكرتان تمدان الجسور بين الـ (هنا) والـ (هناك) وهو جل ما يقومان به داخل نص المسرحية الذي تحول بكليته إلى رثاء للفجر المنتظر. وفي مسرحية (الجرافات لا تعرف الحزن) يتجلى الانفصال بين الـ (هنا) والـ (هناك) من خلال حوار العجوز ومناجاته لولده الغائب فيقول: "أنا هنا يا ولدي تتنازعني الأزمنة. حديقتي جف ماؤها والورد لا عطر فيه وأنت هناك" ويقول أيضا: "اسمع يا ولدي، ابق هناك خلف الباب بعيدا عن الأقبية التي لا تعرف ضوء الشمس" في هذه المسرحية كما في المسرحيتين السابقتين تعاني الأسرة من وضع كارثي سببه رحيل ابنهم الوحيد إلى البعيد(هناك) أملا في الخلاص من سطوة وظلم العالم الذي يعيش فيه(هنا) بمعنى آخر أن قاسم مطرود اشتغل في هذه المسرحية على استبدال وظيفة العالمين إحداهما بالأخرى. ففي العالم الذي(هنا) تموت الأم حسرة على ولدها ويلقى القبض على الأب ويودع في تابوت الحياة ليتعرض على يد جلاديه إلى صنوف مختلفة من التعذيب الوحشي لا من اجل شئ إلا الإجابة عن سبب رحيل ابنه إلى البعيد(هناك) وعمن دبر له الرحيل وبهذا يقدم لنا قاسم مطرود صورة متكاملة عن عالم الـ(هنا) الذي يمور بكل أشكال العبودية والتبعية والذيلية والقنوط والفاجعة والحرمان والفقدان والانتظار السقيم وخيبة العودة وعتمة الروح والضياع والتيه والظلم والظلامية والسوداوية والمأساة. انه عالم أو بقايا عالم هدمته القوى الظلامية وخربته من الداخل بعد أن زرعت داخل النفوس أسلاكها الشائكة يقول العجوز مناجيا ولده: "عروسك التي تنتظر أحرقت ثوب عرسها وتمثالك الذي نحت انكسر انفه والجدار الذي خلدت عليه ذكراك تسلقته الرطوبة وقميصك الموشى بخيوط ذهبية اختفى لمعانها" عالم لم تعرف الجرافات فيه، كما تخبرنا المسرحية، الحزن ولا الرثاء. ويود العجوز أن يتغير كل ما فيه بعودة ولده الغائب المنتظر: "انتظرتك كي تغير الأشياء وتحرف اتجاه الشمس ولكن هل كنت حلما. ركلاتهم كانت تكتم أنفاسي وأنت تطوف فوق سحابة وأنا اختنق" لقد وضع قاسم مطرود قبالة هذه الشخصية المدمَرة (بفتح الميم الثانية) شخصية الرجل الذي يبدل وظيفته الأدائية على وفق مقتضيات كل دور يلعبه داخل النص فمرة يظهر بهيئة نادل ومرة بهيئة رجل حصان ومرة أخرى بهيئة رجل نفايات وطاه وقاطع أشجار...الخ. وفي كل مرة يدخل فيها يلف بقطعة قماش بيضاء طرفا من أطراف العجوز العليا أو السفلى حتى ينتهي به الحال إلى لف جسد العجوز كله فيتحول العجوز بذلك إلى مومياء لا يستطيع الكلام، ولا التنفس، ولا التحرك ليأتي الرجل الحصان أخيرا ويقذف به إلى العربة مع أكوام النفايات ويسحبها إلى خارج المسرح تاركا في ذهن القارئ انطباعا،عن تدني قيمة الإنسان في عالم يمتاز بمصادرة إنسانية الإنسان وإلغاء دوره، بل إلغاء أي دور له على الإطلاق، وتحذيرا بملاحظة أخيرة للنص من أن الحكاية لم تنته بعد، لأن العربة لم تتوقف. وفي مسرحية (نشرب إذن) يعزف قاسم مطرود نغمة الـ(هنا) والـ(هناك) على وتر مختلف فيقدم لنا زوجا وزوجة وقد أصابهما جراء غياب ابنهما اضطراب عقلي جعل استجابتيهما وإجاباتيهما لا تتناغم مع طبيعة الأسئلة المطروحة عليهما لحدوث خلل في آليات استقبال الدماغ الذي يفسره العلماء بسقوط الحافز على المنطقة الخطأ من الدماغ ولهذا تأتي الاستجابة غير متوائمة مع السؤال المطروح في أغلب الأحيان. تسأل الزوجة، على سبيل المثال لا الحصر، زوجها قائلة: "هل معك مشط؟" فيجيبها الزوج: "أنا جائع" وعندما يسأل الزوج: "هل عندنا أولاد؟" تجيبه الزوجة: "سأنظر وجهي في المرآة" لقد كان انتظارهما السقيم لولديهما اللذين غيبتهما الحرب اكبر الأثر في جعل حواريهما مفككا ومكررا وعبثيا بعد أن تقوقعا داخل عالميهما الصغير الذي يشبه إلى حد ما حجرا صحيا في مستشفى للأمراض العقلية. إن الصورة التي قدمها قاسم مطرود لهاتين الشخصيتين وان بدت خيالية جدا إلا أنها واقعية أيضا فهي ملتقطة من الواقع ومنتقاة من صوره المأساوية التي تعكس حال الناس إبان وبعد الحروب المدمرة. يقول الزوج لزوجته: "هناك ينام ولدي الصغير وولدي الكبير" فتقول له: "ينامان في ارض أخرى وعندما يستفسر الزوج عن المكان الذي ينامان فيه تجيبه الزوجة: "هناك" الـ(هنا) إذن في كل جرافات قاسم مطرود هي المكان القريب الحاضر المعلوم الذي تتحرك على أرضه الشخصيات المأزومة. والـ(هناك) هو المكان البعيد الغائب المجهول. في الـ(هنا) تمارس الشخصيات الواقعية حضورها المستمر منتظرة أوبة الشخوص الغائبين من (هناك) غيابا قسريا مفروضا عليهم، من خارجهم بأشكاله التدميرية المختلفة جراء زجهم عنوة في الحروب أو رحيلهم الإرادي إلى البعيد وفي الشكلين يقع الأثر الفاجع على الوالدين فيودي بحياة أحدهما أو بكليهما على حد سواء. أما الرجل في هذه المسرحية فهو شخصية تكميلية أيضا، وهمزة للوصل بين عالمين أحدهما تسلطي غادر، والآخر مغدور به. يؤدي دوره صامتا فيمنح المسرحية غرائبية ودهشة تشد القارئ إلى حدثها والى استقراء أفعالها المقبلة ويتنوع ظهوره على الخشبة بتنوع الشخصيات التي يمثلها بالطريقة نفسها من الأداء الذي قام به الرجل في المسرحية السابقة. وبذلك تكون الشخصيات التي قدمها قاسم مطرود في مجموعته المسرحية (الجرافات لا تعرف الحزن) موزعة على ثلاثة مجاميع: المجموعة الأولى: شخصيات غيبتها الحرب أو اختارت الغياب هروبا بعيدا عن القمع والترهيب، والتعذيب، والقتل، والاغتيال، وفي كلا الحالتين تسببت في تحطيم حياة المجموعة الثانية. المجموعة الثانية: شخصيات تعيش حضورا قلقا ومعاناة قاسية وانتظارا مدمرا لأوبة أبنائهم الذين أخذتهم الحرب إلى البعيد محطمة علاقاتهم الأسرية ومفككة روابطهم الاجتماعية ومؤدية بهم في اغلب الأحيان إلى الموت. المجموعة الثالثة: شخصيات مبتكرة من خيال الكاتب وهي شخصيات تكميلية افتراضية لا وجود لها واقعيا يتجسد دورها في استكمال صورة الحدث عن طريق التعليق أو التماهي أو المشاركة المباشرة بأحداث المسرحية. وخلاصة القول إن كل هذه المجاميع تمارس أفعالها الدرامية والفكرية موزعة، كما أسلفت، على عالمين أحدهما قريب وصغير حاضر(هنا) وآخر بعيد وكبير وغائب(هناك) تقع تحت سطوة موضوعة واحدة مشتركة هي موضوعة الحرب التي دفعت بحياتهم جميعا إلى الدمار والخراب.
الواحد أو مجموعة النصوص كلها. بمعنى آخر أن قاسم مطرود يحرك شخوصه داخل النص ضمن حدود عالم داخلي صغير قريب(هنا) يعرض فيه أفعالهم الأساسية، وآخر خارجي كبير بعيد(هناك) داعم لتلك الأفعال في حالتي التحام العالمين، معا، أو انفصال أحدهما عن الآخر ففي مسرحية (للروح نوافذ أخرى) نجد عالمين كل واحد منهما سمي بواحد من اسمي الإشارة هنا و هناك. تقول الأم: "ما جئتم بي إلى هنا إلا لضلالتي وزيادة عتمتي كأني لم ادخل إلى هنا من قبل" إن عالم الـ (هنا) الموجود واقعيا عالم دمرته الحرب وطاله خرابها، وتفشّى ذلك الخراب حتى طال حياة الشخصيات الرئيسة وحطم نفوسها، وعزز فيها لوعة الانتظار السقيم فالأم على سبيل المثال امرأة غيبت الحرب ابنها وفرضت عليها انتظاره سنوات طويلة تحولت حياتها، خلال ذلك، إلى ظل للحياة بعد أن فقدت ذاكرتها. وإن الذاكرة التي تعمل على وفقها الآن تربطها بذلك العالم البعيد بخيط واهن جدا محيلة عالم الـ(هنا) إلى غربة دائمة لا تنجح محاولات الإبنة في تخليصها منها بغية التعرف على ابنها العائد من الأسر والذي تحولت صورته إلى كيان مشوه لا يمت بصلة إلى صورته المحفوظة في الذاكرة، وهنا يتفاقم الشعور بالاغتراب ويتحول اللقاء إلى مفترق طرق بعد أن اعتقدت الأخت/الابنة انه سيشكل صدمة مضادة تعيد لأمها ذاكرتها المفقودة لتستطيع بعد هذا أن تعيش (هنا) مثلما كانت تعيش (هناك) تقول الأم في موضع آخر من النص: "يا لحزني إني لا اذكر الماضي وان قبلت الفكرة فلا أستطيع أن أحس بكما مثل أبنائي لأنني ما زلت أعيش الغربة هنا" الـ (هنا) إذن لا تلتقي عند الأم بالـ (هناك) وبهذا تفشل كل محاولات الابنة والزوجة في حبك لحمة اللقاء بسداه. ويشتمل عالم الـ (هنا) على شخصيات أخرى كالزوجة والأخت وهما شخصيتان مأزومتان ترتبطان بعالم الزوج/الشقيق البعيد الغائب(هناك) بروابط اجتماعية تكتسب قداستها من العمق الإنساني النبيل لهذه الروابط. وهما تحفظان في ذاكرتيهما صورة الغائب الذي أبعدته الحرب فعقدتا الأمل على تغيير حياتهما(هنا) حال عودته من(هناك). تقول الأخت آملة: "انه سيعود..تحيطه الهالة وعلى كفيه جوهرته البراقة التي ستوقظ الميت الحي" وتستعد الزوجة لاستقباله وهي بأجمل حلتها وزينتها: "شئ حسن، شعري ينسدل على كتفي دون عناء، فقد نسيت كل مستحضرات التجميل يجب أن لا اتركه مجعدا أريده هكذا منسابا على كتفي" وتصطدم كل هذه الاستحضارات على صخرة البرود العاطفي الذي لف العائد من(هناك) واللامبالاة التي وصل إليها وبلادة المشاعر التي جعلت منه إنسانا آخر أو ظلا لإنسان كانه يوما ما. لقد عاد ليضع نقطة في نهاية سطر الحياة فيغلق باب المحبة في وجه شقيقته التي اعتقدت، طوال غيابه، أنه يحبها وأنها ما عاشت إلا على هذا الأمل. ويدفع بزوجته إلى يأس يفقدها الإحساس بالحياة فتضحك ساخرة من قدرها: "من يثبت بأننا أحياء وان هذه اللحظة مستمرة" أما أمه فتعلن أنها أكثر غربة(هنا) وأنها لا يمكن أن تشعر بوجودهم كأبناء لها وكأن كل ما حدث كان هباء في هباء، وعبثا في عبث، وفي هذا دلالة تكاد تكون واضحة عما آلت اليه حرب شاء مرتكبوها أن تستمر طويلا لتكون محصلتها النهائية الرجوع إلى البدء والتنازل عن كل شئ لم يريدوا التنازل عنه بعنجهية مخادعة وبسالة زائفة وأفكار تمويهية وكأنني بقاسم مطرود يريد أن يقول: أليس من العبث أن نبدأ حربا من اجل شئ نتنازل عنه في نهايتها ؟! أما الشخصيات الأخر كشخصية ذان وايان فهما تمثلان حلقة الاتصال بين الـ (هنا) والـ (هناك) فضلا عن تدخلهما في سياق الحدث وتماهيهما مع بعض الشخصيات. وهما شخصيتان غير موجودتين واقعيا ابتكرهما الكاتب للضرورة الفنية حسب. وفي مسرحية (رثاء الفجر) هناك عالمان أيضا، عالم الموتى(هنا) وعالم الأحياء(هناك) يتصل بعضهما مع بعض بوشائج كثيرة تقرب المسافة بينهما ولا تترك إلا خيطا رفيعا واهيا، كحد فاصل بينهما، وقد ضغط قاسم مطرود أولهما في مساحة صغيرة جدا هي هذا العالم الصغير(هنا) بالعالم الفسيح (هناك) عن طريق شخصيتي الدفان الأول والدفان الثاني اللذين يعملان كهمزة للوصل بين عالم الأحياء الذي ينتميان إليه وبين عالم الأموات الذي يعملان على تهيئته لاحتواء تدفق قتلى الحرب وموتاها. وكما عاشت شخصيات المسرحية الأولى حالة انتظار طويل سقيم لابنهم الأسير، تعيش الشخصيات هنا حالة انتظار أيضا لا لكي تصل إلى مفترق الطرق كما حدث في المسرحية السابقة ولكن لتصل إلى ملتقى الطرق الذي سوف يجمعها تحت سقف الموت الواحد ليواصل كل منهما مشقة الانتظار ثانية على أمل حلول عيدهم الذي ربما سيوفر عليهما بعضا من الشقاء والعناء. فهما يأملان، على الدوام، أن يلتقيا فيه مع ابنهما الذي أخذته الحرب إلى البعيد الذي(هناك). ويتدخل قاسم مطرود، مرة أخرى، ليعمق إحساسنا بحجم الفاجعة بعد أن جعل الزوجة تهجر عالم الأحياء وتدلف إلى عالم الموتى آملة أن تسمع صوت ابنها أو تراه يهب لاستقبالها فتفاجأ بغيابه ثانية ثم تعرف انه ذهب "يتفقد أصحابه ممن شاركوه الحياة. أحدهم مات بعد موته بعام لكنه بقي في الأرض الحرام حتى تفسخ جسده (برهة) أشهر طويلة وهما يلملمان ما تبقى من العظام ويبحثان عن الأجزاء المفقودة فقلبه في بطن نسر وعينه ابتلعها غراب وأطرافه تقاسمتها الكلاب وما تبقى كان من حصة ديدان الأرض" وبعد هذا الانفصال شبه التام بين العالمين يعود قاسم مطرود ليربطهما مع بعض عن طريق دخول الدفانين وبعض زوار المقبرة وقراءتهم لسورة الفاتحة ترحماً على روح المرأة التي ماتت واقفة يوم أمس بعد أن أكملت صيام شهر رمضان. لقد اخترقت الرصاصة جسد الابن ثم مات الأب حزنا عليه ثم ماتت الأم/الزوجة حزنا عليهما، وبذا تكون الشخصيات الرئيسة (الواقعية) قد رحلت جميعها إلى العالم الآخر، إلى عالم الموتى، وهو العالم الذي تدور فيه أحداث المسرحية ويرتبط بوساطته الدفانان بعالم الأحياء بعد أن قلبت المعادلة وتحولت الـ (هنا) إلى الـ (هناك). إن وظيفة الدفانين تلخصت في توفير ممرات الدخول إلى العالم السفلي بشهادات وفاة تراكمت بعضها فوق بعض وغطت بتراكمها مساحات كبيرة من المكان. لقد ألفا المقبرة حتى صارت ملاذهما الهادئ. فيها يقيمان وينامان بعيدا عن زعيق الزوجات والإهانات والشكوى فلا أحد يزعج أحد هنا ذلك لان الموتى لا يسبون ولا يزعقون. لقد صارت الحياة بالنسبة لهاتين الشخصيتين لا تختلف كثيرا عن حياة المقبرة بعد أن عقدا تحالفا غير معلن مع الموت. إنهما شخصيتان تكميليتان مبتكرتان تمدان الجسور بين الـ (هنا) والـ (هناك) وهو جل ما يقومان به داخل نص المسرحية الذي تحول بكليته إلى رثاء للفجر المنتظر. وفي مسرحية (الجرافات لا تعرف الحزن) يتجلى الانفصال بين الـ (هنا) والـ (هناك) من خلال حوار العجوز ومناجاته لولده الغائب فيقول: "أنا هنا يا ولدي تتنازعني الأزمنة. حديقتي جف ماؤها والورد لا عطر فيه وأنت هناك" ويقول أيضا: "اسمع يا ولدي، ابق هناك خلف الباب بعيدا عن الأقبية التي لا تعرف ضوء الشمس" في هذه المسرحية كما في المسرحيتين السابقتين تعاني الأسرة من وضع كارثي سببه رحيل ابنهم الوحيد إلى البعيد(هناك) أملا في الخلاص من سطوة وظلم العالم الذي يعيش فيه(هنا) بمعنى آخر أن قاسم مطرود اشتغل في هذه المسرحية على استبدال وظيفة العالمين إحداهما بالأخرى. ففي العالم الذي(هنا) تموت الأم حسرة على ولدها ويلقى القبض على الأب ويودع في تابوت الحياة ليتعرض على يد جلاديه إلى صنوف مختلفة من التعذيب الوحشي لا من اجل شئ إلا الإجابة عن سبب رحيل ابنه إلى البعيد(هناك) وعمن دبر له الرحيل وبهذا يقدم لنا قاسم مطرود صورة متكاملة عن عالم الـ(هنا) الذي يمور بكل أشكال العبودية والتبعية والذيلية والقنوط والفاجعة والحرمان والفقدان والانتظار السقيم وخيبة العودة وعتمة الروح والضياع والتيه والظلم والظلامية والسوداوية والمأساة. انه عالم أو بقايا عالم هدمته القوى الظلامية وخربته من الداخل بعد أن زرعت داخل النفوس أسلاكها الشائكة يقول العجوز مناجيا ولده: "عروسك التي تنتظر أحرقت ثوب عرسها وتمثالك الذي نحت انكسر انفه والجدار الذي خلدت عليه ذكراك تسلقته الرطوبة وقميصك الموشى بخيوط ذهبية اختفى لمعانها" عالم لم تعرف الجرافات فيه، كما تخبرنا المسرحية، الحزن ولا الرثاء. ويود العجوز أن يتغير كل ما فيه بعودة ولده الغائب المنتظر: "انتظرتك كي تغير الأشياء وتحرف اتجاه الشمس ولكن هل كنت حلما. ركلاتهم كانت تكتم أنفاسي وأنت تطوف فوق سحابة وأنا اختنق" لقد وضع قاسم مطرود قبالة هذه الشخصية المدمَرة (بفتح الميم الثانية) شخصية الرجل الذي يبدل وظيفته الأدائية على وفق مقتضيات كل دور يلعبه داخل النص فمرة يظهر بهيئة نادل ومرة بهيئة رجل حصان ومرة أخرى بهيئة رجل نفايات وطاه وقاطع أشجار...الخ. وفي كل مرة يدخل فيها يلف بقطعة قماش بيضاء طرفا من أطراف العجوز العليا أو السفلى حتى ينتهي به الحال إلى لف جسد العجوز كله فيتحول العجوز بذلك إلى مومياء لا يستطيع الكلام، ولا التنفس، ولا التحرك ليأتي الرجل الحصان أخيرا ويقذف به إلى العربة مع أكوام النفايات ويسحبها إلى خارج المسرح تاركا في ذهن القارئ انطباعا،عن تدني قيمة الإنسان في عالم يمتاز بمصادرة إنسانية الإنسان وإلغاء دوره، بل إلغاء أي دور له على الإطلاق، وتحذيرا بملاحظة أخيرة للنص من أن الحكاية لم تنته بعد، لأن العربة لم تتوقف. وفي مسرحية (نشرب إذن) يعزف قاسم مطرود نغمة الـ(هنا) والـ(هناك) على وتر مختلف فيقدم لنا زوجا وزوجة وقد أصابهما جراء غياب ابنهما اضطراب عقلي جعل استجابتيهما وإجاباتيهما لا تتناغم مع طبيعة الأسئلة المطروحة عليهما لحدوث خلل في آليات استقبال الدماغ الذي يفسره العلماء بسقوط الحافز على المنطقة الخطأ من الدماغ ولهذا تأتي الاستجابة غير متوائمة مع السؤال المطروح في أغلب الأحيان. تسأل الزوجة، على سبيل المثال لا الحصر، زوجها قائلة: "هل معك مشط؟" فيجيبها الزوج: "أنا جائع" وعندما يسأل الزوج: "هل عندنا أولاد؟" تجيبه الزوجة: "سأنظر وجهي في المرآة" لقد كان انتظارهما السقيم لولديهما اللذين غيبتهما الحرب اكبر الأثر في جعل حواريهما مفككا ومكررا وعبثيا بعد أن تقوقعا داخل عالميهما الصغير الذي يشبه إلى حد ما حجرا صحيا في مستشفى للأمراض العقلية. إن الصورة التي قدمها قاسم مطرود لهاتين الشخصيتين وان بدت خيالية جدا إلا أنها واقعية أيضا فهي ملتقطة من الواقع ومنتقاة من صوره المأساوية التي تعكس حال الناس إبان وبعد الحروب المدمرة. يقول الزوج لزوجته: "هناك ينام ولدي الصغير وولدي الكبير" فتقول له: "ينامان في ارض أخرى وعندما يستفسر الزوج عن المكان الذي ينامان فيه تجيبه الزوجة: "هناك" الـ(هنا) إذن في كل جرافات قاسم مطرود هي المكان القريب الحاضر المعلوم الذي تتحرك على أرضه الشخصيات المأزومة. والـ(هناك) هو المكان البعيد الغائب المجهول. في الـ(هنا) تمارس الشخصيات الواقعية حضورها المستمر منتظرة أوبة الشخوص الغائبين من (هناك) غيابا قسريا مفروضا عليهم، من خارجهم بأشكاله التدميرية المختلفة جراء زجهم عنوة في الحروب أو رحيلهم الإرادي إلى البعيد وفي الشكلين يقع الأثر الفاجع على الوالدين فيودي بحياة أحدهما أو بكليهما على حد سواء. أما الرجل في هذه المسرحية فهو شخصية تكميلية أيضا، وهمزة للوصل بين عالمين أحدهما تسلطي غادر، والآخر مغدور به. يؤدي دوره صامتا فيمنح المسرحية غرائبية ودهشة تشد القارئ إلى حدثها والى استقراء أفعالها المقبلة ويتنوع ظهوره على الخشبة بتنوع الشخصيات التي يمثلها بالطريقة نفسها من الأداء الذي قام به الرجل في المسرحية السابقة. وبذلك تكون الشخصيات التي قدمها قاسم مطرود في مجموعته المسرحية (الجرافات لا تعرف الحزن) موزعة على ثلاثة مجاميع: المجموعة الأولى: شخصيات غيبتها الحرب أو اختارت الغياب هروبا بعيدا عن القمع والترهيب، والتعذيب، والقتل، والاغتيال، وفي كلا الحالتين تسببت في تحطيم حياة المجموعة الثانية. المجموعة الثانية: شخصيات تعيش حضورا قلقا ومعاناة قاسية وانتظارا مدمرا لأوبة أبنائهم الذين أخذتهم الحرب إلى البعيد محطمة علاقاتهم الأسرية ومفككة روابطهم الاجتماعية ومؤدية بهم في اغلب الأحيان إلى الموت. المجموعة الثالثة: شخصيات مبتكرة من خيال الكاتب وهي شخصيات تكميلية افتراضية لا وجود لها واقعيا يتجسد دورها في استكمال صورة الحدث عن طريق التعليق أو التماهي أو المشاركة المباشرة بأحداث المسرحية. وخلاصة القول إن كل هذه المجاميع تمارس أفعالها الدرامية والفكرية موزعة، كما أسلفت، على عالمين أحدهما قريب وصغير حاضر(هنا) وآخر بعيد وكبير وغائب(هناك) تقع تحت سطوة موضوعة واحدة مشتركة هي موضوعة الحرب التي دفعت بحياتهم جميعا إلى الدمار والخراب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق