في الوجع القادم إلينا غفلة تكمن المرارة والنشيج ، وهما حصيلتان حتميتان لأثر الفقدان .. والفقدان في دائرة الإبداع العراقي حصرا ، أمرا ليس سهلا على الإطلاق فبالرغم من قساوة الموت المترادف في حياتنا ، كما الطلع المبثوث في رياح صنعتها المحنة ، كبديل عن الاسترخاء والرخاء .. فقدرنا دائما أن نعيش أمواتا في آتون ملتهب من الحكايات واللاجدوى .. كما ( العلبة الحجرية ) التي امتصت رحيق الأنثى في مكان بعيد مختلق ، أبتدعته مخيلة محيي الدين زنكنه .. عطر المسرح ورحيقه العذب ، ذاكرة العراق الأدبية في أثبات الوجود ، تلك العلبة التي نكون فيها نحن دائما أشبه بالمخلوقات المتحجرة التي تجتر الحكايات وتصدقها ، مثلما صدقتها أنثى زنكنه المتوهجة بالشباب والحيوية وهي تستمع إلى
حكايات السيدة ( أرمز ستون ) العجوز المتهالكة التي تصف لها الحياة خارج علبة أمريكا الحجرية ، وكأنها الكابوس المهلك الذي يمتص رحيق الشباب ويحيله إلى مجرد ذكرى عابرة في وجود ثابت فعلي متكامل لا يعوض .. فالشمس محرقة خارج العلبة ، تحول بياض الأجساد إلى سواد فاحم ، والمطر محرق كحامض النتريك ، وحتى الهواء قاس ومدمر .. هكذا هي الحياة خارج تصور الأنثى المرسومة مخيلتها في عند مساحات العجوز الحكائية ، ولكن ما أن تفيق الفتاة على استنارة الخارج المخبأة في عمق الإنسان الباحث عن الحرية ، تكون الأفكار قد استقرت وتشبعت في دواخلنا نحن المنشغلون التائهون في أقبية الحزن المغلقة على هواجس زنكنه ، وتداعياته وبحثه الدائم عن الخلاص والحرية والهجرة بعيدا عن القسر والعذاب .
محيي الدين زنكنه كاتب مسرحي من الطراز الأول ، أشتغل على الكلمة طويلا فكانت رديفا ملاصقا للفعل المؤثر داخل الحدث المتنامي لأغلب مسرحياته الحائزة على الجوائز المسرحية في مواسم المسرح العراقي السنوية .
* ( الجراد ) جائزة الكاتب العراقي في المربد عام 1970
* ( السؤال ) جائزة أحسن نص عراقي للعام 1975
* ( العلبة الحجرية ) جائزة أحسن نص عراقي عام 1982
* ( رؤيا الملك ) جائزة الدولة للإبداع عام 1999 .
ومع حصاده للجوائز في التأليف المسرحي ، ألا انه روائي مبدع ومتألق كتب ثلاث روايات أهمها ( أساسوس ) تيمنا بالطائر الذي يموت عندما يبتعد عن طبيعته ومكانه الذي يبني فيه عشه الأول ، وهي قصة حياة رجل كردي هجر من أرضه وبيته ووطنه رغما عنه ، إلى مكان آخر غريب عليه، فيكون كما ذلك الطائر يعيش حياة مليئة بالغربة والاشتياق ، لا شيء فيها سوى ذكريات راسخة في الوجدان عن أرض ووطن أصبحا بالنسبة له كأحلام البحارة المنسيين وراء بحار لا شيء فيها سوى الأمواج التي تتلاطم بعيدا عن اليابسة .
يابستنا لا تعدو سوى اشتياق لكلمات عابرة ، قيلت في مقابلات سريعة وابتسامات توزعت على تفاصيل الوجه الذي حفر الزمن على تضاريسه المحببة إلى النفوس أرقى علامات الهدوء ، والتأمل تعكسها عينا أبا أزاد حبا ومودة وعرفانا بالتواصل والبحث عن كلما هو جديد ومثمر .
محيي الدين زنكنه ليس كلاما عابرا ينسخ على ورق الذكريات ، ليكون موسما من مواسم التأمل والاشتياق في مرور السنوات المتعاقبة على رحيله تباعا .. انه كاهن الوجد المتلبس في ثنايا النص ، وراهب في صومعة المسرح الذي تتناغم معه إيقاعاته كعازف متمرس على أوتار الكلمات ، التي بحث في مفرداتها طويلا عن مسميات هي غايته في الوصول أليها دائما .
الحرية .... جذوة الأمل البعيد لإيجاد ذروة الفعل المشاكس عند الإنسان المنفي في داخل ذاته ووجوده ، في ظل الحكومات القسرية المقيدة للفكر والعواطف التي لا يكون في أجوائها سوى البحث عن الخلاص .
ذلك هو محيي الدين زنكنه رجل المسرح العراقي الأول في التأليف ، وآخر عناقيد الإبداع العراقي النبيل الذي اقتطفته يد القدر في غفلة من الجميع وفي ساعة من أنقى ساعات التجلي للوصول إلى السمو والخلود الذي سيثبت أسمه على لائحة المبدعين الخالدين في عطائه الثر الذي ستتناقله خشبات المسارح جيلا بعد جيل .. رحمه الله وجعله مع الخالدين أسما وذكرى