اغتراب المثقفين : سعد محمد رحيم


ها هنا أتحدث عن المثقفين اليساريين الديمقراطيين والليبراليين والعلمانيين، وهؤلاء يمكن أن يكونوا منتظمين في أحزاب أو حركات أو مؤسسات، لكنني لا أتناولهم لصفتهم هذه، مع استبعادي بالمقابل لمروجي الإيديولوجيات الدوغمائية وساكني الأبراج العاجية. ولكي أكون أكثر تحديداً أقول؛ إن المثقف هو من تشغله معضلة المعنى بحسب دوركهايم ومن ( يتحلى بروح مستقلة محبة للاستكشاف والتحري وذات نزعة نقدية واحتجاجية تشتغل باسم حقوق الروح وحقوق الفكـر فقط ) على وفق ما يذهب إليه محمد أركون، ومن يصرح بالحق في وجه السلطة أياً كانت، ويعكر الصفو العام بحسب إدوارد سعيد، ومن تكون موضوعات العالم كلها بما فيها ذاته بالنسبة إليه، محل رؤية عقلانية نقدية صارمة لا تهادن بحسب عدد هائل من مفكري الحداثة وما بعد الحداثة بدءاً بكانط وديكارت وسبينوزا وماركس، وليس انتهاءً بهابرماس وفوكو وديريدا وإدوارد سعيد ومحمد أركون. وفي هذا المقام، أقصد بالاغتراب
تلك الحالة المركبة من الشعور بالغربة ـ إذ أن الاغتراب هو شعور أولاً، أي ظاهرة سيكولوجية ـ الغربة التي تتخذ مستويات متعددة، بدءاً من الشعور بانفصال الذات عن الآخرين وعن محيطها.. عن معطيات هذا المحيط، فالذات المغتربة هي الذات المعزولة.. الذات التي فقدت قناة التواصل، وفرصة التواصل، وهذه الذات تنكفئ على نفسها، وتؤثر الصمت غالباً على الكلام. غير أن الاغتراب هو صناعة سلطة ما وممارساتها في معظم الأحوال. إن السلطة أياً كان طابعها تعمل على وفق آليتي ( الإدماج ـ الإقصاء ) في تعاملها مع من هم في ضمن مجال نفوذها، سواءً كانوا داخل أو خارج كيانها المؤسساتي. وهؤلاء يتوزعون تراتبياً، في ضوء مديات امتثالهم أو عصيانهم ـ وتكون هذه بدرجات متباينة، وغير محصورة بدرجتين ـ فالسلطة، إذ ذاك، ستحاول احتواء وإدماج من هم مستعدون، أو مضطرون للقبول بعملية الدمج. وإقصاء وتهميش، أو حتى إبادة من يكونون عصيين على ذلك. وكل سلطة تخلق أعداءها.. تفترضهم، وتحدد خندقهم ليتسنى لها تسويغ إدارتها القمعية باعتبار أن كل سلطة ممأسسة في إطار سياسي أواجتماعي، هي قمعية في نهاية المطاف. في هذه المنطقة المعقدة يشتغل المثقفون حتى ليمكن أن نحدد مفهوم المثقف بمعيار وجوده الواعي فيها.. يكون المثقف مثقلاً بهاجس ووعي التغيير.. إن كينونته المعنوية تصبح مشروطة بالهاجس والوعي ذاك. وحتى مع حدوث التغيير لا تنتهي وظيفة المثقف.. إنه في الحالة هذه سيبحث عن أفق آخر.. إن وعيه النقدي كفيل بجعله على غير وفاق، وعلى الدوام، مع العالم. استناداً إلى هذه الخطاطة يمكن أن نفهم فكرة حتمية اغتراب المثقفين في ظل السلطات كلها،ولا سيما الجائرة منها.. إن المثقف العراقي، اليوم، لا يجد نفسه تحت طائلة وضغط سلطة الاحتلال، وسلطة الحكم فحسب، وإنما تحت طائلة وضغط سلطات أخرى، اجتماعية وأخلاقية ودينية مسيّسة، والنمط الأخير من السلطات يعزز حالة اغتراب المثقف أكثر، كونها تحاصره في بيئته الضيقة، في عقر داره. وما يخشاه المثقف العراقي، في هذا المنعطف الشائك من تاريخنا، وهذا هو أحد الأسباب الرئيسة في انكفائه وشعوره بالاغتراب هو اتهامه أما بالتخوين من قبل مدّعي الوطنية، الذين يعتقدون أن الوطن ملكهم، وأنهم وحدهم يدركون مصلحته، ويستحقون حكمه، أو بالتكفير من قبل الذين يعتقدون أنهم يحوزون على التأويل الصحيح والنهائي للنصوص المقدسة، ومن يخالفهم يكون مصيره الموت، ولا شيء سواه. وفي الوضع المربك هذا يستطيع شبه الأمي، أو بعبارة أقل وقعاً شبه المثقف أن يزيح المثقف.. أن يرغمه على السكوت. * * * في زمن العنف المعمم الصادم، والممزق.. العنف المركب الممارس من قبل الجهات كلها.. العنف لا بشكله الفيزياوي فحسب، وإنما بشكله الرمزي أيضاً، حيث يغدو الشعور بالتهديد طاغياً وقامعاً ومبلبلاً.. في هذا الزمن إذ تتعقد اللعبة فتدخل عناصر قديمة بأزياء محدثة ( كولونيالية جديدة مابعد كولونيالية، ونخب سياسية تناور من أجل السلطة والمصالح، وقوى فتية مع أخرى عتيقة، شرسة عمياء قاتلة ) إلى جانب أغلبية مغلوبة على أمرها.. في هذا الزمن لم يبق أمام المثقف إلاّ إحدى وسيلتين ( الصمت أو الثرثرة ).. والمقصود بالثرثرة، هنا، لغط المثقفين في كل مكان لزعزعة استقرار الوعي البائس المطمئن، المصاب بالجمود والحوَل. في حالات ما قد يصبح الصمت أداة سياسية، ولكن ليس في حالتنا الراهنة قطعاً. وفي حالات ما، تؤدي الثرثرة دوراً تقويضياً، بنسبة ما، لوضع قائم، ربما كان وضعنا القائم ملائماً لتؤدي فيه مثل هذا الدور، وإن بشكل محدود، فالثرثرة وحدها لا تكفي بكل تأكيد. ففي الوضع العراقي، كما هو شأن وضع معظم الدول المحسوبة على منظومة الجنوب اقتصادياً حيث تكون نسبة الأمية عالية، والعوائد الاقتصادية خراجية، والإنتاج العلمي والمعرفي في أدنى مستوياته، والفساد الإداري والمالي صفة للمؤسسات القائمة.. في وضع مثل هذا تلجأ الغالبية العظمى من السكان إلى الاحتماء بالهويات الضيقة، وتقبّل الخطاب الثقافي التبسيطي الذي يختزل الوجود الإنساني في العمل والحياة والموت في ثنائيات مبتسرة، متقابلة واضحة، يقينية. فالفرد الاعتيادي ينأى عن خطاب المثقف الإشكالي، المتسائل والمحير في تعقيده، فهو ـ أي الفرد الاعتيادي ـ يبغي الاطمئنان الذي يوفره النمط الأول من الخطاب، ويعادي، وباستماتة أحياناً الخطاب الآخر، أو على أقل تقدير، لا يكترث به. ففي ظل الفاشية ( أو الفاشيات كما هو الحال عندنا ) ينقطع بين المثقف والناس بسبب اللغة والأسلوب وحتى الهموم فالمثقف يلجأ في مثل هذا الظرف إلى الغموض عبر إقامة حواجز لغوية، ومن ثم نفسية، بين المثقفين وبين متلقيهم المفترضين.. ليس للإنسان الاعتيادي الوقت الكافي ليفك الألغاز وينغمس في المعميات.. إنه يبغي الوضوح والفهم السريع. لعقود أنشأ المثقفون لأنفسهم صورة بدت مقبولة، أو على الأقل لم تواجه بكبير اعتراض من قبل الآخرين.. تلك الصورة التي مثلتهم طليعة للمجتمع، ومنحتهم سلطة في حدود وظيفتهم.. كانت تلك الصورة مرتبطة بسياقها السياسي/ التاريخي، يوم كانت الحرب الباردة في ذروتها، وحركات التحرر الوطنية في العالم تفرض خطاباتها، وتتبختر في إهاب جاذبيتها الخاصة. أما اليوم، وبعد أن استدار التاريخ بزاوية متسعة، إذ تلاشت آخر أصداء الحرب الباردة، وأعلن الأميركي من أصل ياباني "فوكوياما" فكرة " نهاية التاريخ" تعبيراً عن انتصار الليبرلية/ الرأسمالية المدوي، وتغلغل منطق العولمة ليطبع شكل العالم وخريطته بطابعه، إلى حد بعيد، اهتزت الصورة التقليدية للمثقف الذي ما عاد يجرؤ على القول أنه يمثل طليعة المجتمع، فاقداً في هذا التغيير المهول شرعية وظيفته القديمة.. في هذه النقطة المأزومة، عند هذا التقاطع المدوخ، يجد المثقف نفسه منتزعاً عن أفق حلمه، وأكاد أقول؛ وهمه، وملقىً به في تيه غربة مؤسية. فالعالم لم يعد كما تصور، وكما أراد، ففك ارتباطه به، وانسحب إلى ذاته.. إلى تلك العزلة المريرة، محبطاً، ومملوءاً بشعور حاد بالعجز والخسران.. لقد فقد وظيفته/ سلطته/ مكانته/ جاذبيته/ قبوله المميز بين الآخرين. غير أنه يمتلك الآن فرصته التي لا تعوض.. فرصته الأكيدة في أن يغادر وهمه القديم، ويتقمص وظيفته التي وجد من أجلها.. وظيفته في أن يكون شاهداً حياً لعصره، وناقداً له في الوقت عينه، ومن ثم رائياً، من خلل غربته وضبابها.. يفضي بشهادته دوماً، ولا يكف عن لعبة النقد، ويكوّن رؤية في الذات والآخرين والعالم.. رؤية لا يحتفظ بها لنفسه، وإنما يجهر بها دوماً ليخلخل القناعات والأوهام. في الحقب الماضية كانت النخب والقوى السياسية تستميل النخبة الثقافية، وتحاول كسب ودِّها، أن تجعلها طيعة، ممتثلة، أو أن تحوز على رضاها، غير أن هذا الأمر كان في الحقب الماضية. أما الآن، في الراهن العراقي، فيبدو أن النخب والقوى السياسية ليست بحاجة إلى النخبة الثقافية.. إن طغيان وسائل الإعلام، وطبيعة وآليات عملها يتيح للسياسي تسويق إيديولوجيته ومشروعه، من دون ذلك الوسيط العتيق المسمى بـ "المثقف". فالسياسي بحاجة إلى نوع من التقنيين الذين يتقنون فن استثمار وسائل الإعلام لتسويغ توجهات وسلوك السياسي، لا نقده.. إن ما يُستبعد، في هذا المسار، ويُـنبذ هو البعد النقدي.. إن الجعجعات الفارغة التي يتبادلها معظم السياسيين، واتهام بعضهم بعضاً يمكن أن تكون أي شيء سوى النقد. ووسائل الإعلام الفائقة السرعة، والقادرة دوماً على صنع الإثارة تمتص الخطاب النقدي الذي هو خطاب المثقف/ المفكر جاعلة منه غير ذي فاعلية أو تأثير.. إن ذلك الخطاب غالباً ما يضيع وسط هذا الضجيج الباعث على الدوار، إن لم نقل على الجنون.. يتشظى هناك، ويتبدد. * * * يعكف المثقف العراقي الآن على التفرج.. التفرج السلبي أكثر من المراقبة الدقيقة.. المراقبة تعني نوعاً من المشاركة.. أن تشارك الشيء المراقب، وتكون كما لو أنك جزء عضوي منه.. المثقف الآن لا يرغب بالمشاركة، ولذا فهو متفرج أكثر من كونه مراقباً جيداً.. إنه ممتعض، في قلبه مرارة ويأس، وفي عقله حيرة وشك، وعدم يقين.. إنه في محيطه وخارجه في الوقت نفسه، محاصر بمعطياته وإشاراته من غير معين.. لقد هبت الريح، على عكس ما اشتهت سفنه، وها هي سفنه في عرض المحيط المتلاطم، تائهة، مضعضعة، وتوشك على الغرق. وحيث أن اغتراب المثقف حالة ذاتية فردية، قد تكون وهمية أحياناً، فهو في الراهن العراقي حالة وظاهرة جماعية تسم واقع المثقفين العراقيين بسبب العوامل التي ذكرناها والتي سنذكرها. يفضي إخفاق المثقف إلى اغترابه، إلى انفصاله عمّا حوله.. يدير عينيه إلى الجهة الأخرى الخالية، ويفكر بالهرب، ويحلم بالمنفى.. هكذا هو حال قطاع واسع، هو الأكبر من شريحة المثقفين العراقيين، الآن، حين يختلون إلى أنفسهم، أو إلى بعضهم بعضاً.. يفصحون عن نيتهم في المغادرة، إذا ما أتيحت فرصة مضمونة، باحثين لهذه الفكرة عن مسوغات. ليس التفكير بالمنفى عيباً، أو اختياراً مشيناً في الأحوال كلها. وقد غادر إلى المنافي ابتعاداً عن جور الواقع السياسي والسلطات بأشكالها المختلفة، في التاريخ الحديث والقديم أعداد هائلة من المثقفين في شتى بقاع الأرض. ولكن؛ من سيستفيد من مغادرة هؤلاء؟. لنسأل أنفسنا.. ثم؛ ماذا قدّم آلاف المثقفين، من مفكرين وكتّاب وصحافيين وإعلاميين وفنانين وأكاديميين وغيرهم لخدمة حالة الوضع العراقي الراهن بعد مغادرتهم للعراق خلال العقود الماضية ـ من غير أن يعني هذا بخس قيمة نتاجاتهم الفكرية والعلمية والإبداعية هناك؟. أليس الخراب الحاصل اليوم يعود في أحد أسبابه الرئيسة إلى هذا النزيف الثقافي المريع الذي أفرغ وما زال يفرغ البلد من نخبه وعقوله وإمكانياته الإبداعية تاركاً المجال للأدعياء، ومحبي السلطة من أشباه المثقفين، والموتورين، والمتعصبين ضيقي الأفق من أصحاب الفكر العشائري والطائفي والشوفيني، وشذاذ الآفاق ليعبثوا بمستقبل البلاد ويدفعونها باتجاه الهاوية؟. إن المثقف بالتوصيف الذي بيناه آنفاً ما عاد يمتلك القدرة على التأثير في الشارع السياسي، والأخطر أنه ما عاد يساهم بحيوية في إعادة صياغة المفاهيم والقيم الثقافية للمجتمع. فخلال عقود من الزمان تغيرت لغة شرائح واسعة من المجتمع، فدخلت المفاهيم والقيم الطائفية والعشائرية والشوفينية على نطاق واسع في نسيجها، نابذة المفاهيم والقيم التي كانت قارة قبل ذلك التاريخ. فقبل عقد الثمانينيات، في سبيل المثال، لم يكن هناك، إلاّ في حالات نادرة وشاذة، من يسألك عن طائفتك وقوميتك وعشيرتك بعدما ابتعدت المدن، وجزء من الريف عن قيم النهوة والثأر، ولم تكن ترى سرادق الفصل العشائري منصوبة في مراكز المدن، ولم تكن تسمع أستاذاً جامعياً يفتخر أنه يأخذ النصائح في حل مشكلاته من عمه الأمي في الريف. وإذا ما قيض لمراقب ما أن يقارن بين المفردات والجمل التي كان طلبة الجامعات العراقية، بافتراض أنهم شريحة متقدمة في التعليم والثقافة، يتداولونها في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وبين المفردات التي يتداولونها في الوقت الحاضر لاكتشف فجوة مخيفة. أما المثقف فما زال يتعاطى مع أفكار ومفاهيم لم تعد ذات جاذبية عامة كما كان شأنها في عقود الخمسينيات والستينيات وحتى السبعينيات، على الرغم من أن فكرة أو مفهوم ما إذا ما فقدت جاذبيتها فهذا لا يعني بطلانها أو خطلها في الأحوال كلها. فالمثقف العراقي يعيش الآن ويلمس تلك المفارقة بين حلمه في دولة المؤسسات والمجتمع المدني مقابل انهيار مؤسسات الدولة السريع وطغيان قيم البداوة، وحلمه بالعلمانية والتعددية مقابل انتشار الأصوليات والشوفينيات، وحلمه بالحرية بمعناها الكوني مقابل المحرمات التي صارت تطوقه من كل حدب وصوب. وباستعارتنا مقولة لغرامشي نجد مثقفنا ذا البصيرة النقدية يراقب بشغف شبه يائس قديماً يرفض أن يموت وجديداً تعسر ولادته.. في هذه الدوامة الصعبة تتعكر الأحلام، وتهتز الآمال، ويبدو العالم وكأنه خرج عن مساره المنطقي وولج مداراً مجهولاً. كان للمثقف العراقي جسوره القائمة مع الناس إلاّ أن هذه الجسور بدأت تنهار الواحدة تلو الأخرى مع بدء تبدل علاقات القوة في العالم. وبدا وكأن هذا المثقف خسر مع ذلك التبدل مرتكزه العالمي المتمثل باليسار والقوى الديمقراطية الحية فضلاً عن حركات التحرر في العالم.. لم تعد هناك شخصيات كاريزمية ذات ثقل ثقافي كريجيس دوبريه وغرامشي وجان بول سارتر وسيمون دي بوفوار وهربرت ماركوز وفرانز فانون يمكنهم دعم مكانة المثقفين في العالم. من جهة أخرى بات وكأن المثقف العراقي يدعو إلى بضاعة كاسدة، فمفاهيم مثل العلمانية واليسار وحتى الديمقراطية إلى حد ما لم تعد لها قيمتها التي كانت لها قبل عقود، فالديمقراطية شوهت في التطبيق منذ سنتين ونصف في ظل الاحتلال، والعلمانية شوهت مع فشل الحكومات الوطنية المتبنية لها منذ انتهاء عهد الاستعمار، واليسار الذي تراجع وشوِّه بعد اندحار التجربة الاشتراكية في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي السابق، وفشل حركات التحرر الوطنية التي تبنت اليسار في الغالب، في تحقيق تنمية حقيقية على أرض الواقع. وعموماً تقلص إلى حد بعيد عدد المهتمين والمنشغلين بخطاب المثقف مقابل عدد المهتمين والمنشغلين بخطابات دعاة الأصوليات والهويات الضيقة. وإذا قيل أن عصر المثقف الداعية الرسولي قد انتهى فإن هذا لا يمثل إلا نصف الحقيقة، فدعاة الإيديولوجيات الدوغمائية بأشكالها كلها ما زالوا يستخدمون الوسائل والآليات القديمة في دعواتهم الزاعقة الانفعالية لتهييج الشرائح الأكثر أمية وجهلاً في المجتمع. * * * في الوقت الذي تعولمت فيه الرأسمالية العالمية تعولمت الأصوليات الدينية وراحت تمد شبكاتها في كل بقعة من العالم، مقابل ذلك انكفأ المثقفون وتحولوا إلى أنوات معزولة، أو جماعات في جزر صغيرة، بعدما كانوا قبل عقود قليلة متعاضدين معولمين يشد بعضهم أزر بعض مهما بعدت المسافات بينهم على الأرض. واليوم يبدو وكأن المثقفين لم يعودوا يؤمنون بما لديهم، على الرغم من أن طروحات كثر منهم باتت أكثر نضجاً، ولا سيما بعد تحررهم من سلطة الإيديولوجيا، ودخولهم المديات الحرة للنقد، موسعين من مساحة عالمهم الفكري باستثمارهم معطيات المنهجيات الجديدة في علوم اللسانيات والاجتماع والاقتصاد والتاريخ والأنثربولوجيا، وغيرها من العلوم الإنسانية المجاورة.. إن اغترابهم هو اغتراب في الزمان وفي الواقع، واغتراب عن نتاجاتهم الفكرية والإبداعية كما لو أن كل ما قالوه وبشروا به ما عادوا ذوي صلة به، كما لو أنهم لا يعيشون زمنهم، كما لو أن الواقع خذلهم، وخذل رؤاهم وأفكارهم، كما لو أن التطبيقات انتقمت من نظرياتهم، على حد تعبير برهان غليون. وإذا كان ماركس قد حدد الاغتراب بانفصال العامل عن نتاج عمله في المجتمع الرأسمالي، ويكاد يكون اغتراب المثقفين في حالتنا، وفي جانب هام منه، هو انفصال المخاطبين المحتملين الذين يتوجه إليهم خطاب المثقف عن ذلك الخطاب. كان الواقع إبان العقود المنصرمة أعقد بما لا يقاس من نظرياتهم التبسيطية، وها هم يكتشفون اليوم أنهم في حقيقة الأمر لم يفهموا واقعهم بالشكل الذي كان ينبغي فيه أن يفهم، وان تلك القوى التي استهانوا بها فيما مضى راحت تهزمهم، أو تكاد، في الشارع السياسي والثقافي، لا لأن تلك القوى تمتلك الصواب، بل لأنها حذقت في استغلال المناخ الإشكالي العام، مع الوسائل والتقنيات المتاحة وعرفت كيف تنفذ من خلال خطابها الانفعالي المسطح إلى العقول والضمائر وتستعمرها. فالصراع يدور حول احتكار الحقيقة، من يمتلك الحقيقة؟. ليست الحقيقة اليقينية، العسيرة المراوغة، وقد ثبتت افتراضاً في الواقع والتاريخ، بل الحقيقة المتخيلة، المقنّعة، والمتلفعة بوشاح القداسة، والمطروحة بقوة حتى وإن كانت زائفة.. واحتكار الحقيقة يقود إلى احتكار الماضي والحاضر والمستقبل. " أنا أملك الحقيقة، وحدي أملكها، ولذا فأنا من له العالم، والزمان، وعليك أن تتبعني، وإلاّ..! " هكذا يجري الأمر، فعلى أرضية مختلة، وفي مناخ مشوش، ينقاد الحائرون واليائسون والمحرومون إلى من يظنونه يحمل مشعل الحقيقة، وعنده ضمانات الحياة الدنيا والآخرة. أما المثقفون المتحذلقون، اللايقينيون، الشكاكون، المتسائلون فلا يجدون لهم في الشارع، في هذه الآونة، معيناً. إن انهيار الطبقة الوسطى والبرجوازية المدينية في العراق، وتبدل الخارطة الجيوسياسية في العالم، وما تبعه من إعادة نظر ومراجعات لمجمل الطروحات النظرية التي كان المثقفون يروجون لها حتى وقت قريب، سحب من تحت أقدام المثقفين البساط، وتركهم بلا سند اجتماعي وسياسي. وهذا يلخص، إلى حد بعيد، مأساة إخفاقهم، ومن ثم اغترابهم. هل نحن أمام مشهد ميؤوس منه، أو أفق مسدود؟. لا يقصد بالكلام عن الإخفاق، هذا المعنى قطعاً، فالإخفاق في نهاية المطاف هو ضياع فرصة أو مجموعة من الفرص، وتبقى هناك على الدوام فرصة أخرى. المثقف مغترب بحكم هذا الإخفاق.. الاغتراب عرَض طارئ إذن.. حالة مؤقتة مرتبطة بشروط قابلة للتحول، فحيث لا يستطيع المرء التكيف مع مناخ اجتماعي/ أخلاقي ما، أو وضع اقتصادي/ سياسي سمته الاستغلال والقمع يتعمق الاغتراب.. الشعور بالاغتراب، فالاغتراب ناتج عن فشل في التكيف والمواءمة، وأحياناً في الفهم.. أن تفهم محيطك، ووضعك في محيطك.. موقعك في العالم. إن التكيف، في سياق كلامنا، لا يعني الإذعان لشروط الواقع كما هي، وإلاّ لانتفت صفة المثقف عن المرء بعدِّه منشغلاً بمشكلة المعنى،وطارحاً مقولة الحق بوجه السلطة ـ أياً كان شكلها ـ ومعكِّراً للصفو العام، فالتكيف، ها هنا، يعني أن تعيد علاقتك بالواقع كما هو.. أن تفكِّره.. أن ترتقي بفكرك ومفاهيمك بالصيغة التي من خلالها يمكن للواقع ذاته أن يتأثر، وأن يتغير. إننا بحاجة إلى جيل آخر، على الأقل، كي يتفاعل العقل النقدي في الواقع، وينشأ قبول عام لإخضاع اليقينيات كلها إلى المحاكمة العقلية والنظر النقدي. ويسود خطاب حضاري جديد يعيد الاعتبار للذات الإنسانية جاعلة منها قيمة عليا، وللعقل والحرية، بعدِّها مرتكزات لحداثة غير مشوهة، طال انتظارها.
البريد الالكتروني - سعد محمد رحيم saadrhm@yahoo.com