تحسين كرمياني / قصة قصيرة / سيرة يد

[يدي اليمنى(من يصدقها اليوم)/كانت وردة متفتحة/مليئة بالفراشات/فجأة،ودون مقدمات/مثل من يُدفع ويسقط/فقدت أوراقها/وأصبحت شاحبة عارية..]..(هلده دومين).. بدأت الحكاية في شتاءٍ بغيض،كنت من وراء نافذة غرفة الضيوف أراقب حركة الناس وهم يتراكضون،لحظة هلّت عربة يقودها صبي يسحل بالكاد حمارة،سادني ارتعاش مباغت شلّني للحظات أشعرتني أن شيئاً قرقع وأنفصل منّي وعاد،لفني موج بكاء لما حصل،ظلّ الصبي يبكي وهو يراقب خط الوقود المندلق من صنبور الخزان،منذ ذلك اليوم صرت في عالمٍ هلامي أمشي ولا أرى سوى خيوط عناكب تتدلى من السماء وأشباح تتصادم في كل مكان،غيبوبة لذيذة تأخذني قبل أن تنفصل يدي وأراها تطير وتحط على ضحيتها،ثمة أقاويل تفشت في سوق مدينتنا(جلبلاء)،أن أشباحاً غزتنا مع دخول الغرباء،لابد من نهاية محزنة قادمة إلينا،جعلت الناس تهرع إلى أماكن العبادة بعدما غدت مأوى للمتسولين والصعاليك وضحايا الحروب والكوارث،انجرفت معهم لأعتصم بالحبل المتين وأربط ثغري بعناقيد التسبيح والتهليل،أملاً في زوال الهلع المتنامي بين الناس،لكم حاولت أن أحول دون سقوطي في فك العزلة تجنباً لما يحصل،عبثاً كان كل مجهود بذلته،قوّتان تتصارعان،تتحكمان،واحدة ترقيني وأخرى تذلني،لا تستغرق الحالة سوى ثوان كلمح البصر،ودائماً أكتشف جسدي سابحاً في عرقٍ غزير،لهاث يستعمر لساني ودمع يوشح عيني،وأنا خاشع أرتجف كأنني متعلق ما بين سماء تجتذبني وأرض لا تتركني،يسود الناس ارتباك ووجوم قبل أن تنطلق ألسنتهم وتنهال على صبيان اليوم،دفعاً لغائلة الجوع،راحوا يسرقون صنادل وأحذية المصلين من داخل المساجد،ومن محاسن الصدف أنهم لم ينتبهوا لوجود حذائي،فهو الوحيد الذي يبقى دائماً على الرفوف الخشبية،ألبسها وأجرجر أذيال الخيبة شاغلاً نفسي بحلٍ ممكن لمصيبتي.. *** يدي تغادرني،تتجول في الأزقة،تطرق أبواب المنازل،تهشم زجاج النوافذ،تضغط على أزرار الأجراس..منبهات المركبات،توقظ كل حيوان نائم وكل كلب متكاسل ويحصل هرج في صمت الليل،تتداخل صرخات النساء ببكاء الأطفال وقيامة الأصوات المتشابكة للحمير والكلاب السائبة،وفي النهار يدور حديث ذي تشعبات تحوم حول الأشباح القادمة من السماء،زاد أصحاب المحال التجارية الطين بلّة حين أعلنوا فراغ خازنات نقودهم وهم يقسمون بأغلظ الأيمان أنهم تركوها مملوءة وليس هناك دليل يوضح بانتهاكٍ خارجي،إذ كانت الأقفال محكمة ولابد أن ما يشاع من أقوال ليس من بنات الخيال،وحدي من كان يمتلك المبرز الجرمي،ففي كل لحظة كنت أشعر بانتفاضة جيوبي وأحصي ما ينمو من نقود وأنا حيران،طاوعتني فكرة أن أصارح أمي كوني مدللها ووحيدها،وضعت كفها على ثغري..همست : ـ إيّاك أن تفه بشيء.. خلتها(جهينة)علّتي،لم تذعن لمطلبي،ظلت ترسم في ذهني علامات استفهامية تزيدني غموضاً وتدفعني نحو مصيبتي برغبة وانسجام.. *** باكراً أستيقظ،رعشات تنهضني وتغبطني وتأخذني،أمشي وحولي الناس يتراقصون ،الطالبات أكثر الضحايا،أراهن يتراجفن وتختلج فيهن رغبات خجولة،يضعن كتبهن وحقائبهن على صدورهن لكتم الإعتمالات والفرح المترجرج فيهن،كنت المنتشي الوحيد،أشعر بدغدغات الخصور الناعمة وحرارة النهود المتقافزة،تمضي يدي لتنحدر إلى المنطقة الأشد تعقيداً وأرى البسمة والرجفة وأسمع التأوهات،ترافقني حشود بشرية لتعتلي حيطان المدارس،كل طالبة تركض،يحصل تصادم يدفع الناس إلى الضحك،قبل أن ينفضوا وتعرج ألسنتهم لاعنة إلى سلطة الأشباح الغازية.. *** [كنت طفلاً نزقاً،ذات ليلة تربصت طويلاً بطير خلته وجبة عشاء دسم،تسلقت شجرة المنزل وأطبقت على قنيصتي،فقدت صلتي بالعالم جرّاء لسعة مباغته لثعبان،كان عليهم أن يسلبوا وعيي ويبتروا يدي اليمين واستبدالها بأخرى ميكانيكية].. *** في الصيف ليس بوسعي أن أدفن رغبة الذهاب إلى نهر مدينتنا،أراني وسط الماء،يجاملني سوّار ويغزل حولي انتشاء،يحدث شجار بين الأطفال،كل واحد يتهم صاحبه سبب اختفاء أسماله،وحدي ارتدي أسمالي،مثقلاً أتقهقر بالهم والدموع،يدي غدت أعجوبة الزمان،تذهب وتعود وهي تحمل الفرح والحزن معاً،الناس يتلفتون،يسرة..يمنة،كأن أشباحهم المزعومة تتلبسهم،لم أحتمل أكثر مما احتملت،ذات مساء قبّلت يدي أمي وتوسلت أن تريحني من مصيبتي،كفكفت دموعها ووضعت رأسي في حجرها..همست: ـ إيّاك ..إيّاك..أن تفشي هذا السر،أريد منك موثقاً،(أقسمت لها)لا أعرف يا أبني لحظتها أ..كنت فريسة كابوس أم..حلم نذير،كان الوقت مساءً لحظة طرقت الباب امرأة ادعت أنها ضلت دربها،استبقيتها ضيفة معي في الغرفة وفي الصباح رأيتها واجمة وبكت لاختفاء خاتمها،لقد رأيت بأم عيني كيف كان لحم بنصرها محفوراً،فتشنا المنزل قبل أن تذهب وهي تبكي،أبوك أكتشف السر حين اختلى بي،وجدته يندفع ويسقط على ظهره ورأيت خاتماً يلمع بين ساقيه،منذ تلك الليلة وأنا أشعر بشيء غريب يتحرك في أحشائي يتحرر ويعود قبل أن تطل على الدنيا.. *** ربما يقذفني الناس بالسفه والتجديف لو فهت بمثل هذا الكلام،قررت أن أربط يدي بسرير نومي ،وجدت الحالة هي..هي،رصدت أمي علامات الخيبة وهي تنمو وتعكر مزاجي وتدفعني أن أعتزل وأمتعض من أدنى شيء..باغتتني : ـ تزوج..عسى أن تنفعك العشرة.. *** ربطني مصيري بفتاة جميلة،وحيدة أبيها،أمطرتني في مناسبات متفرقة بوابل ألحاظ شهوانية،وجدتني مرفئاً لراحتها،ووجدتها دواء لعلتي.. *** ذات ليلة وددت الأنس معها..باغتتني : ـ من أين تأتي بكل هذه النقود.. لم أحتمل السؤال،تهت في صحراء أبحث عن قطرة ماء،لم تمهلني وقتاً لأسترد هدوئي فأجهزت علي: ـ حالة أمك معروفة..قل الحقيقة..أرجوك.. هربت من شراستها،من قوة أنوثتها،أهرب إلى العالم،أذهب وأعود وأحمل هذا المال الذي بات يقلقها،كلما تسأل أتلعثم إزاءها.. *** في محاولة يائسة قلت لها ذات مساء : ـ أليست المرأة تنشد السعادة.. ـ أيّة سعادة.. ـ سعادة المال.. ـ أنت زوجي..يجب أن أعرف كل صغيرة وكبيرة عنك.. ـ أليس المال يسعد المرأة.. ـ لكنه يفسد الرجل.. كانت لامعة،سريعة البديهة،دقيقة في اختيار كلماتها،لا تبذر في حروبها،أرضختني لحصارٍ لا مفك منه،كدت أن أنجرف أمام تيار ظن نما في ذهني،يوم قررت أن أفك هذا الرباط المقدس فيما بيننا،خضت مستنقعات أغواري بحثاً عن منفذ يهديني لشرعية القرار،سقطت في فخ أنوثتها،رباطها النقي وطهارتها،وكلما تلبدت من حولي غيوم اليأس،أراني اهرب باتجاه ربوة يانعة،أقف بين عالمين متناقضين،عالمها الحقيقي،جاذبيتها الساحرة،وعالم مندمج،شره،يسودني اليقين أن ضياعها يعني خراب.. *** ذات مرة تمارضت أمام توسلاتها قبل أن توقفني أمام عتبة الباب لحظة همت بالهرب إلى الليل.. ـ من أوصل هذا إلى صندوق أشياؤك..!! تحجرتا عيناي ونز من جسدي عرق غزير استحال إلى نهرٍ بدأ يجرفني باتجاه سديم،تشبثت بها ورأيتها تنتشلني من موتٍ مرتقب.. ـ لا أعرف.. ـ تكذب.. هل حقاً تستقيم الحياة على لحظة مفاجأة،كانت صفعة خلاص،ونقطة ذوبان،ألقتني في ساحة الاعتراف،في محاولة مرتبكة كي لا أحنث بعهدي لأمي..قلت : ـ ولم هذا بالذات من بين كل ذلك الركام المتراكم.. حفرتني بحدقتين من نار،ليس بوسعي أن أغادر جنتي بعد موت أمي من بعد رحيل أبي ذات قضاء وقدر..صاحت صيحة مستجوب بوجه متهم : ـ ماتت أمي بسببه.. سياط لا هبة انهالت وراحت تمزقني،تلمست دربي وأنا أزحف وأتشبث بها،سقطت معي ورحنا نتناصف الحزن والبكاء،نتناصف الحلم والعذاب،لقد أراد القدر أن يكرمني أو يستكمل مشهد مصيبتي،لحظة قاد بنت تلك الزائرة المزعومة في ذاكرة أمي لتشكل نصفي الضائع،ما أن أفرغت خزينة أسراري في حجرها،رأيتها تمسح دموعها،مدت كفها وراحت تمسح دموعي أيضاً،حاولت أن ترسم بسمة على ثغرها المرتعش،عانقتني بعنف وبكاء،بصدق وضحك..همست : ـ صدقت..صدقت..!! *** [قد تكون أحلاماً عابرة وقد تكون حكايات تسلية،قد يكون كلاماً مرموزاً،لكن الأحداث ما تزال تتردد في كل جلسة سمر،بين عجائز مدينتنا(جلبلاء)،سيرة ميسرة لا يمل منها لسان ولا تشبع منها أذان،حكاية يد صارت أعجوبة الزمان..!!]..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق