الكاتب والمكان: قراءة في تجربة أورهان باموق : سعد محمد رحيم

في معظم أعمال الروائي التركي أورهان باموق ( الحائز على جائزة نوبل للآداب 2006 ) تغدو اسطنبول/ المدينة هي البؤرة/ المركز التي تشع منها، وتنجذب إليها العناصر التي منها تُنسج مادة السرد. وقارئ باموق سرعان ما يكتشف قوة الصلة ومداها بين الكاتب الروائي والمكان.. المكان من حيث هو تاريخ وآثار ومعالم وصور وطبيعة وفضاء مأهول بالبشر والأشياء.



خبر باموق، مثل أبناء جيله، هذا التمزق، وذلك الصراع بين الحنين إلى ماضٍ قومي عتيد ضائع، وبين النزوع نحو الأوربة والتغريب والتخلص من الإرث الإمبراطوري الثقيل. وولادته وحياته في اسطنبول تحديداً، بما تعبّر عنه المدينة من وجود رمزي ومعنوي، وموقعها في خاصرتي كل من الشرق والغرب، وكونها البوابة إلى كليهما، وموضع إشكال حضاري وتاريخي بينهما جعلت من باموق عاجزاً عن مغادرة اسطنبوله في أي عمل يكتبه. فالمدينة بذكرياتها وتاريخها وناسها وهندستها وجغرافيتها وحزنها وآمالها تلقي بظلالها على كل سطر من سطور كتاباته. فثمة مدن تستحوذ على روح وعقل وضمير كتّاب بعينهم، لا يقدرون على التحرر منها، أو التنكر لها، أو هم لا يريدون.. إن سطوة اسطنبول على رؤية باموق وتجسيدها لعالمه تحيلنا إلى ما كانت تعنيه دبلن لجيمس جويس، والقاهرة لنجيب محفوظ، والإسكندرية للورانس داريل وبغداد لفؤاد التكرلي، والبصرة لمحمد خضير، وطنجة لمحمد شكري.

واسطنبول في كتابات باموق هي العالم كله.. خلاصة العالم، مرآته، نقطة الجذب الخلاقة إذ يأتيها الآخرون، ولا يغادرها أحد. كأن لا مكان آخر في العالم غير اسطنبول، أو كأن لا أهمية لأي مكان آخر عداها. فهو في النادر يشير إلى الأمكنة الأخرى، ولا يكاد يرافق ( سردياً ) أياً من شخصيات رواياته إلى أمكنة خارج اسطنبول. واسطنبول التي خرجت من جلدها بعد هزيمة الإمبراطورية العثمانية، تستعير جلد من هزمها ( الآخر/ الغرب ) فتفقد روحها، رونقها، لتغرق في الفوضى والقذارة بحسب رؤية باموق. هذا هو الانطباع الذي يخرج به قارئ كتابيه ( اسطنبول ) و ( الكتاب الأسود ). وحتى البوسفور الذي كان وما يزال رئة حياة لأسطنبول، ومشهد جمال ساحر سيكون سبباً في موت المدينة، وبرؤيا قيامية ترد في مقالة جلال ( شخصية في رواية؛ الكتاب الأسود ).

"ومن الشرفات حيث كنّا نتفرج على مياه البوسفور الحريرية المتلامعة تحت ضوء البدر في زمن ما، سنتفرج على ضوء زرقة الدخان المنبعث من جثث الموتى المحروقة على عجل لعدم التمكن من دفنها. وحيث كنا نشرب ( العرق ) حول طاولات على ضفة البوسفور مستنشقين روائح الأرجوان وزهر العسل وسط برودة مدوخة، سنشعر في حلوقنا بطعم تلك الرائحة المتشكلة من مزيج العفن، وحرق الكبريت التي تكوي أنوفنا... الخ".

اسطنبول عالم حزين.. هذا ما يستخلصه باموق عن مدينته. والحزن الذي يجللها متفرد وعميق، غائر في نخاع التاريخ، يلقي بظلها على المَشاهد بدءاً من البوسفور وحتى أحياء الفقراء. يطبع الشعر والموسيقى الاسطنبوليين، وينفذ إلى أعمق أعماق الروح.. يقول في كتاب ( اسطنبول ): "الحزن في اسطنبول سائد في الموسيقى المحلية، وكلمة أساسية في الشعر من جهة، ووجهة نظر للحياة، وأمر يومئ لحالة نفسية، ومادة تجعل المدينة مدينة من جهة أخرى". فالحزن ثقافة للملايين الذين يقطنونها، وطبيعة يمكن تحسسها من النظر في وجوه الناس والمحيط الذي يعيشون فيه. وهو تجسيد وتحصيل حاصل لماض متألق ضاع وحاضر موسوم بالفقر والتيه. هذا ما يحس به في دخيلته ابن اسطنبول.. هذا ما يلفت انتباه الآخر القادم من جهة الغرب. والكلام عن اسطنبول يفضي تلقائياً إلى الكلام عن نظرة الرحّالة والمستشرقين الغربيين إلى الشرق، ولاسيما الأدباء منهم والفنانون. وقد صار جزءاً من إرث الشرق الثقافي والتاريخي ما رسمه أولئك الغربيون وما كتبوه سواء قبل الشرقيون به أو رفضوه. ولا شك أن جزءاً مهماً من صورة الشرق حُفظ بفضل نتاجات الرحّالة أولئك. فما يتعلق بالطبيعة والمعمار والأسواق والأزياء والعادات والتقاليد وتفاصيل السلوك اليومي قد نُقل من خلال عيون ووجهات نظر من جاؤوا، وإن ألقوا على ذلك كله شيئاً من شطحات مخيلاتهم، وتصوراتهم المسبقة، وتحيزاتهم. فالغربي الباحث عن الغريب والمدهش والسحري وغير المألوف ( على وفق معاييره ) وجد في اسطنبول ضالته. فقد كانت هناك أسواق النخاسة، وتكايا الدراويش، وجمال المقابر، والحرائق، والقصر والحرم، والمتسولون وكلاب الشوارع. ولكن الجمهورية وسياسة الغربنة أزالت ذلك كله.. هذا ما يعلمنا به باموق بشيء من الأسى، مع القبول بالأمر الواقع.

حفظت كتابات الرحالة ورسوماتهم صورة اسطنبول الماضية قبل أن يولد باموق بقرن وأكثر. ولهذا قرأ ما كتبوه عن المدينة وكأنها ذكرياته الخاصة. وكان هذا يسبب له بعض اللخبطة والالتباس.. كان الرحالة يُسقطون خرافاتهم وتخيلاتهم على واقع المدينة أيضاً، إلى الحد الذي تتجلى فيها كما لو أنها مصنوعة، لا صلة لها باسطنبول الحقيقية. وكأسطنبولي، يقول باموق: "يبدو لي أحياناً تلك الأوصاف الواقعية للحرم أو للأزياء، والتقاليد المصورة بعيدة عن حياتي إلى حد يبدو مدينة شخص آخر وليس مدينتي. منحني التغريب، كما منح ملايين الاسطنبوليين، متعة إيجاد ماضينا الخاص كأنه مشهد غرائبي". ولقد تماهى باموق مع أوتريللو وهو يرسم مناظر اسطنبول، ومع نيرفال وفلوبير وأميكس. وكانت كتابات الأخيرين مهمة جداً له.. كان بحاجة إلى نص جديد، غير تلك النصوص التقليدية الموروثة. وهنا كان يقرأ وينظر بعقل وعين ناقدين.. يقول: "عندما أشعر بقصور نظرة الغربي لي، أغدو غربي نفسي".

يتماهى باموق مع الرحّالة حيناً لينظر إلى اسطنبوله فيرسمها من خلال أعينهم، ويجد حيناً آخر موقع نفسه فيها كما صوروها ( في الرسم والكتابة ). ثم يعود ليراها بعينيه قبل أن يشرع في رؤية الرحّالة، وهم يجوبون المدينة بعينيه كذلك، في وضع مركّب أشبه ما يكون بلعبة مرايا متقابلة داخل قاعة هائلة حيث يوجد هو والرحّالة والمدينة، يتبادلون المواقع والأدوار.

ويشير الكاتب إلى أن اسطنبول لم تكن قط مستعمرة غربية، بل كانت هي نفسها، فيما مضى عاصمة متروبولية. لذا فإنها لم تجد موقعاً أساساً لها في كتاب إدوارد سعيد اللامع، كما يسميه، ( الاستشراق ).. هذا التبادل في مواقع وزوايا النظر وفي اختيار المنظور المناسب في كل مرة، والتماهي، ومن ثم العودة إلى الذات الخالصة، كلها ستلوّن، فيما بعد، أسلوبه في الكتابة واختياره لموضوعاته، وتحديد جوهر رؤيته بعد أن يهجر الرسم ويقرر بشجاعة أن يكون كاتباً.

وتبقى ثيمة كتب باموق مجسدة في السؤال الإشكالي؛ كيف للمرء أن يكون نفسه؟ كيف لأمة أن تكون نفسها؟ ليكابد كلٌ ضد الزيف والافتعال والتزوير. وهكذا يمكننا أن نعيد صياغة الأسئلة تلك؛ ما الذي يمنع المرء من أن يكون نفسه؟ أتراه يهرب منها خجلاً، أو لأنه ضاق ذرعاً بها؟ أم لأنه لا يكاد يعرفها، أم يتطلع إلى تجاوزها لتطل بقوة مسألة الهوية الشائكة والقلقة؟. فالمرء الذي يخفق في أن يكون نفسه سيفتقر دوماً إلى الثبات.. ستكون الأرض زلقة أبداً تحت قدميه.

نعرف أن ليس من السهل تحقيق الرغبة في أن يكون أي شخص نفسه، إن كانت تتولاه مثل هذه الرغبة حقاً. وأن يكون شخص ما نفسه أو لا يكون.. أو أن تكون أمة ما أو مدينة ما نفسها أو لا تكون فتلك قضية طُرحت فيما بعد العهد الإمبراطوري الغارب. وتركيا الحديثة تختلف، على الرغم من انتمائها طويلاً لبلدان الشرق عن بقية تلك البلدان الخارجة لتوِّها من مرحلة الاستعمار الكولونيالي وخوضها للمعركة الوطنية العسيرة من أجل تأكيد الذات والبحث عن، وابتكار، هويتها الخاصة.. فتركيا الإمبراطورية كانت هي نفسها ذات تجربة استعمارية طويلة، وأنها خرجت بعد قرون من السيادة على بقاع واسعة من العالم، مهزومة عسكرياً، ومنهكة وجودياً، ومقوّضة جغرافياً لتواجه سؤال الكينونة والهوية والمستقبل في عالم جديد. فوضع تركيا ليس هو وضع الهند في سبيل المثال أو مصر أو العراق أو الكونغو، أو أي بلد من بلدان أمريكا اللاتينية، بعد المرحلة الكولونيالية. وكانت على اسطنبول أن تتحمل العبء النفسي والوجودي لمثل هذا الالتباس وهذه التغيرات الدراماتيكية.

إن اسطنبول بتنوعها العرقي والمذهبي، ببريقها الإمبراطوري الذي خفت، بتأرجحها بين إرثها الشرقي الذي ما يزال يثير خيال الباحثين الغربيين عن السحري والعجيب وبين تطلعها إلى أوروبا حيث تنتمي جغرافياً.. اسطنبول هذه تمنح المشهد الأكثر ثراءً للروائي في أن يكتب ويغترف من منابع قصصها الدفّاقة. وهي لروائي مثل باموق إمكانية سردية لا تنضب.. إنه يستطيع أن يكتب عنها طوال عمره الإبداعي من غير أن تتاح له فرصة القول بأنه انتهى من موضوعته.

المصادر:

1ـ ( اسطنبول؛ الذكريات والمدينة ) أورهان باموق.. ترجمة؛ عبد القادر عبد اللي.. دار المدى للثقافة والنشر/ دمشق ــ ط1/ 2007. وترجمة أخرى للدكتورة أماني توما وعبدالمقصود عبد الكريم.. إصدار الهيئة المصرية العامة للكتاب ط1/ 2007 وقد استفدنا واقتبسنا من الترجمتين.

2ـ الكتاب الأسود.. رواية أورهان باموق.. ترجمة عبدالقادر عبداللي.. دار المدى ـ دمشق.. ط3/ 2007.

سعد محمد رحيم

saadrhm@yahoo.com