محيي الدين زنكنة... محيي الفكرة الفاعلة... / سلام كاظم فرج

 تعود علاقتي بالكاتب العراقي الكبير محيي الدين زنكنة إلى عام 1969.. كنت حينها طالبا في الصف الخامس في إعدادية المعقل في البصرة حين أقتنيت العدد الثالث من مجلة الثقافة الجديدة ومن بين موادها قصة قصيرة لزنكنة معنونة ب ( سبب للموت.. سبب للحياة.) ثيمتها تدور حول معتقل سياسي يرفض البوح لجلاديه بأسرار رفاقه.. وفي العام ذاته أخرج محمد الوهيب مسرحية من تأليف زنكنة لاقت إقبالا لافتا من الجمهور البصري المثقف .. عنوانها السؤال.. وقد حظيت بقراءات نقدية على حدائق نقابة الفنانين.. وكان للمسرحي
البصري بنيان صالح دور كبير في إدارة حوارات مثمرة حول أدب زنكنة ومسرحيته تلك..
في عام 1972 انتقلت للسكن في بعقوبة وهنالك التقيت بالكاتب الكبير وقد عرفني به السياسي والمناضل البعقوبي المعروف محمد الدفاعي.. حدثته حينها عن احتفاء الجمهور البصري به وعن قصته الأولى التي قرأتها من بين كتاباته.. فتحدث بتواضعه المعروف ودماثته عن ظروف كتابته لتلك الأقصوصة وكان يتحدث عنها حديثه عن شخص عزيز.. رغم انه قد تجاوزها أسلوبا ومضمونا.. وأهدى لي نسخة من مسرحية صدرت له في ذلك الوقت بعنوان الجراد.. قدمها لي وهو يبتسم.. ربما ستمنع من التداول فحاول الاحتفاظ بها... مسرحية الجراد قدم لها الكاتب الكبير بجملة لافتة( أحداث المسرحية تدور في بورتريكو!!).. ومن يقرأ المسرحية وقد كتبت عام 1970 سيكتشف تحقق إرهاصاتها بعد أعوام قليلة.. فمضمونها يدور حول إجبار الناس على الانتماء إلى حزب السلطة بشتى السبل.. وأكثرها عنفا وخسة.. وتتكرر جملة كن جرادة.. كن جرادة.. كثيرا في مسرحيته تلك..
جمعتني به أمسيات عديدة في ضيافة محمد الدفاعي المعروف بكرمه وثقافته وشجاعته.. كنا نلتقي على ضفاف نهر ديالى في قرية الهويدر في بستان الدفاعي العامر بأنواع الفواكه.. ولم تبخل أم قاسم زوج الدفاعي بتحضير وجبات العشاء الفاخرة للضيوف.. اتذكر إضافة إلى زنكنة.. سامي محمد الناقد السينمائي المعروف.. والشاعر خليل المعاضيدي.. وناجي الراوي المهندس والأديب ومن اقرب أصدقاء زنكنة ..إضافة إلى مثقفين وسياسيين كثر ينتمون لليسار على العموم...وكانت الامسية قد تضم أكثر من عشرين ضيفا وتمتد أحياناالى الفجر.. تتخللها قراءات شعرية ونقدية وحوارات سياسية ساخنة.... ونكات تتناثر هنا وهناك وضحكات رغم علم الجميع أن ثمة ريح صفراء تنتظر اليسار واليساريين والمثقفين أجمعين!!!..
كان محيي الدين زنكنة محسوبا على الشيوعيين رغم انه لم ينتم رسميا أو هذا ما عرفته عنه على الأرجح.. وحين بدأت الحملة الشرسة على اليساريين في نهايات عام 1978.. انقطع زنكنة عن ارتياد نادي المعلمين الذي كان يحفل بالحوارات الأدبية والتجمعات الفكرية.. وكان حين يلتقي بنا في الشارع أنا والشاعر خليل المعاضيدي.. وسعيد شفتاوي (الفتى المرح والمناضل المعروف).. و قاسم محمد الدفاعي(الذي توفي شابا فيما بعد). يحاول أن يختصر اللقاء بسرعة حذر عيون العسس السريين.. لكنه يمازح سعيدا قائلا... شلون بيكم سعيد؟؟ هل ستصمدون؟؟؟ فيجيبه سعيد... نحن رجال.. وسنريهم!!!.. فيبتسم ابتسامة حزينة ويغادرنا مسرعا... فيما يطلق خليل المعاضيدي زفرة حارة..
في تلك الأيام صدرت له رواية رائعة بعنوان ئاسوس..تتحدث عن الهجرة.. والقسر الاجتماعي. والحنين إلى مسقط الرأس..ومرابع الطفولة.. وفيها نفس إنساني شفيف..
في عام 1980 أطعمت النار مكتبتي العامرة ومن ضمن ما التهمته النيران مسرحية الجراد التي تحققت نبوءتها ورواية ئاسوس..
منذ عام 1980 وحتى عام 1996 لم التق زنكنة وبقيت صورته في ذاكرتي مؤطرة بكل ماهو وسيم ونبيل.. كنت قد رجعت حينها إلى مسقط راسي البصرة.. تاركا المعاضيدي خليل وسعيد وناجي الراوي وقاسم الدفاعي ووالده محمد.. والكاتب الكبير محيي الدين زنكنة للمجهول....
في البصرة وصلتني اخبار تغييب الشاعر المعاضيدي.. وموت محمد الدفاعي المفاجئ.. ثم وفاة زوجه الجليلة أم قاسم .. وموت قاسم الغامض... وأسر سعيد شفتاوي.. وإعدام قيس الرحبي..ودهش علوان .. ومصطفى الديو.. وجاسم كسارة... وهم من أقرب أصدقاء الدفاعي ومحيي..فتخيلت أي سواد سيظلل تلك الروح الرقيقة... لكن حرب الخليج الأولى أخذتنا مراكبها بعيدا... وغطت همومها على الهموم القديمة فنسيت محيي الدين زنكنة.. بل نسيت الأدب والثقافة عموما!!!!
في عام 1996 كان الحصار قد أتى على كل مدخراتي ولأنني لا أجيد مهنة سوى القراءة !!!.. عضني الجوع بأنيابه.. وعض أولادي..حتى أوشكت على الاستسلام للتلف وانتظار الموت جوعا!!.. أتصل بي صديق صدوق وأخبرني إن في بغداد مكتبا للنقل الخاص يملكه صديقان عزيزان من أصدقاء السبعينات يمكنني الاتصال بهما لتوفير وظيفة لائقة وأعطاني عنوان المكتب.. مكتب السلام للنقل.. في شارع فلسطين.. لأكتشف إن الصديقين من اعز أصدقاء تلك المرحلة ومن أهالي الهويدر الكرام قرية محمد الدفاعي التي طالما ضمتنا بساتينها الوارفة.. وهما الصديق الجليل صادق عباس الدر.. والصديق الجليل خالد عبد الرزاق (ابو وليد). وقد رحبا بي بحرارة ووفرا لي سكنا لائقا ووظيفة محترمة.. وحدثاني بكل ما جرى لبعقوبة والهويدر. وتأكدت من اغتيال المعاضيدي والأسماء التي ذكرت... كنت أنام في المكتب ليلا..وفي الصباح أمارس عملي محاسبا... الا إن المفاجأة التي لم تخطر على بال.. هي زيارة الكاتب الكبير محيي الدين زنكنة للمكتب.. لقد عانقته بحرارة.. وكم حزنت لأنه احتاج وقتا لكي يتذكرني..وحين تذكر نهض ثانية وعانقني بود هامسا.. لقد تعبنا بحق!!!..ولم أضيع فرصة فبادرته بالسؤال عن أعز أصدقائه المهندس الأديب ناجي الراوي.. فقطب حاجبيه وأجاب بهدوء.. لست أدري.. ربما أغرقته الروجة..(الموج ).. مازال حذرا.. وتبدو آثار
الحصار واضحة على صحته وأناقته.. لقد كان مثالا للأناقة في السبعينات..
 عرفت انه يزور بغداد بصحبة الصديقين خالد وصادق كثيرا لمتابعة سفر نجله ازاد واستقراره في المهجر والذي كان يعاني كثيرا في توفير مستقر له فيما يبدو.. في إحدى زياراته قرأنا معا في الصحف خبر وفاة عبد الوهاب البياتي الشاعر الكبير فقال بنبرة حزينة... أمر اعتيادي لقد كنت مع عبد الوهاب قبل شهر وكان مريضا جدا..ثم عقب بغموض لم أشأ احراجه في طلب توضيح...(( لكنهم سيفرحون!!!!..))... كان الأستاذ زنكنة يمر في تلك الأيام بظروف اقتصادية عصيبة جدا....ومن الطريف إن اتحاد طلبة البحرين قد أستأذنه في تقديم أحدى مسرحياته مقابل مائتي دولار فقط (.. فقلت له مستغربا .. مائتي دولار ومن البحرين البلد النفطي؟؟).. فأجاب.. هم فرقة شابة وإمكانياتهم محدودة.. ولكن على الله.. عسى أن تصل النقود.. بس لايسكر بهن الملعون..!! ( يقصد احد اصدقاء الكاتب الذي أرسلت عن طريقه النقود!!).
ونشر له اتحاد الأدباء والكتاب في العراق في عام 1998 رواية رؤيا الملك.. وكانت مكافأته مائة دولار فقط عن حقوق النشر.. وبضع نسخ أهدى لي نسخة منها كتب على صفحتها الأولى.. سلام كاظم.. صداقة متجذرة..وتذكرت الجراد التي التهمتها النيران وئاسوس ومجلة الثقافة الجديدة...
وصادف إن اصدر جواد الحطاب جريدة أسبوعية رصينة باسم الزمن..تضمنت مسرحية لمحيي الدين زنكنة عنونها الطاولة المستطيلة وكان الإهداء إلى( صباح الانباري الذي أبى الا أن يحترق بنار المسرح.).. كان المخرج والناقد المسرحي صباح الانباري من اقرب الناس إلى قلب الكاتب الكبير.. لكن المجلة أغلقت بعد أسابيع قليلة..... وكان تعليق زنكنة على ذلك..(( عرفناها من الأول!!))..
نعم سيدي.. أبا آزاد.. عرفناها من الأول.. هذا بلد.. لايكرم مبدعيه الا بعد موتهم.. وربما بعد أعوام من موتهم..