قراءة في مع الجاحظ على بساط الريح ... سيرة قصصية للفتيان



مثنى كاظم صادق

ينزع القاص هيثم بهنام بردى في كتابه الموسوم بـ ( مع الجاحظ على بساط الريح ... سيرة قصصية للفتيان ) منزعا جديدا ، يتجلى في آلية صنع سيرة قصصية من نوع جديد ( للفتيان ) ، كانت باكورتها شخصية الجاحظ ، ويبدو أن القاص في سيرته القصصية هذه الصادرة عن دار ( رند ) في دمشق بطبعتها الأولى عام 2010 م ، يسجل لنا ريادة في هذا الفن ( فن كتابة السيرة القصصية للفتيان ) ، وأقول ( ريادة ) ؛ لأنه بحسب ظني كباحث وناقد أكاديمي ، أول قاص عراقي ، وربما عربي كتب السيرة بهذا الشكل للفتيان ، حيث كتب سيرة قصصية لهم بطريقة سردية مبتكرة غير مألوفة في فن كتابة القصص للفتيان ، إذ تقوم معمارية هذه السيرة القصصية على السرد ذو التبئير الداخلي ( أي أن القصة تسرد من الراوي بضمير المتكلم ) وهو الفتى ذو الخامسة عشر من العمر ، وهو ما لم نألفه في
هذا الفن ، فالسارد هنا هو أحد شخصيات القصة ، فضلا عن بنية بوليفينية ( تعددية صوتية ) واضحة شدت النص إلى المركز بحذاقة واحتراف ، فثمة تناوب حواري متقن بين الراوي ( الفتى ) وأخته دلال والجاحظ ، فقد استثمر المبدع هيثم بهنام بردى هذه التقنية ؛ لغرض الفرز بين صوت الراوي ( الفتى ) وصوت أخته دلال ( الطفلة ) وصوت الشخصية المحورية ( الجاحظ ) متخذا عنصر المفارقة ( الراهنة ) بداية للقصة ومسوغا للتعرف على الجاحظ من خلال مجيء دلال حاملة كتابا استلته من مكتبة أبيها مبدية إعجابها بصور هذا الكتاب ( ما أجمل هذا الكتاب ، قلت لها : من أين حصلت عليه ؟ صمتت لحظة ، ثم همست مثل من ارتكب خطأ ، أخذته من مكتبة بابا ) ص 5 فما كان من أخيها إلا أن وبخها وأخذه منها فطالع عنوان الكتاب وإذا به كتاب( الحيوان ) وبينما هو في تساؤله عن فحوى هذا الكتاب وإذا بالجاحظ ( المفترض ) يظهر لهم فجأة وهنا تحدث المفارقة عندما يقول لهم ( أنا مؤلف هذا الكتاب ) ص 7 فيدعوهم إلى زيارة الجاحظ ( الحقيقي ) وعصره مبتدئا بمدينته ( البصرة ) إذ يستعمل القاص هنا وسيلة نقل مستوحاة من قصص ألف ليلة وليلة وهي ( بساط الريح ) جاعلا منه محورا للتنقلات الزمنية عبر محطات حياة الجاحظ ( الحقيقي ) فقسم سيرة الجاحظ وفق هذا إلى الأقسام الآتية ( في البيت / الولادة / الجاحظ في صباه / الجاحظ الشاب / نوادر الجاحظ / في مجلس الجاحظ / كتاب الحيوان / مؤلفات الجاحظ / مرض الجاحظ / وفاة الجاحظ / في البيت مرة ثانية ) ففي بداية كل مفصل من هذه المفاصل نجد ذكر البساط حاضرا في مستهلاتها بعده عنصرا لتثوير عنصر الخيال وإيقاظه لدى القراء ( الفتيان ) من خلال جعله محور الحركة المركزية للرجوع إلى الماضي ( هتفت وأنا انظر من البساط إلى مدينة جميلة تمتد إلى جوار شط العرب .... ) ص 11 ( يتموج بنا البساط ونحن نسبح في طية منعشة من النسيم ... ) ص 15 ( والبساط ينهب السماء نحو مدن عديدة ... ) ص 23 ( ينحدر بنا البساط نحو المدينة ... ) ص 29 ( هبط بنا البساط برفق فوق حقل أشجار خضراء مزهرة ... ) ص 39 إلخ إذ جاء ترتيب السيرة بتراتبية زمنية جميلة عكست ( الجدة ) في الطرح من خلال هذا الترتيب لجميع محطات حياة الجاحظ بوصفها المكون الأساس في بنية كل سيرة قصصية ، وتأسيسا على ذلك سيطر نبض واحد على طول هذه السيرة وهو نبض الجاحظ والتعريف به بأسلوب رشيق يلائم العمر الذي كتب النص له ولعل هذا ما شكل خاصية أسلوبية لدى كاتب النص ، الذي ابتعد عن النمطية في سرد هذه السيرة فكثيرا ما قرأنا سيرا قصصية للفتيان بأسلوب حكائي تقليدي لا يثير الخيال ولا يشحذ الذهن ولا يغطي محطات مهمة من الشخصية المتناولة وواضح ( جدا )من خلال هذه السيرة أن الجاحظ كان أحد المكتسبات الثقافية والمعرفية للقاص هيثم بهنام بردى في فتوته ، وأذهب ــ وفق هذا ــ إلى أن الفتى ذو الخامسة عشر من العمر الذي قال له الجاحظ في هذه السيرة : ( أنت يا صديقي ستصير شيئا مهما في المستقبل .... ) ص 37 هو هيثم بهنام بردى منطلقا من ظاهرة أسلوبية مؤداها أن القاص لم يعرفنا باسم هذا الفتى ( الراوي ) لهذه السيرة بل احتفظ به لنفسه لأنه ( ذاته ) !! إذ شكل ( أنا ) الراوي اتحادا مع ( أنا ) القاص فضلا عن أن هذه العبارة رددها الجاحظ في صباه ( يجب أن أصير شيئا مهما في المستقبل ) ص 18 . . . كأني بهذه السيرة القصصية التي أعدها المبدع للفتيان تطرح مشروعا للنهوض بالنص السردي من خلال نظرية ( إعادة النظر ) ووصل ما انقطع أو ما كاد أن ينقطع من ثقافتنا التراثية بالتعامل مع الجاحظ كـــ ( إيقونة ) أوصلنا القاص من خلالها إلى ( لذة النص ) بأسلوب خال من التكلف اتسم بالتلقائية الشفافة ، عبر ضمير المتكلم الذي أسس انفتاحا سرديا لبناء نص حكائي استلهم مادته من الماضي ، نجح المبدع هيثم بردى في أن ( يلقح ) سيرته القصصية هذه بالوصف واللون والرمز وهذا ما عبر عن نضج أدواته الفنية من خلال نجاحه بمزاوجة المعرفة التاريخية بالسردية وجعل القديم في تفاعل مع الحديث عبر نسيج متماسك من القص المتدفق فضلا عن نجاحه في تطويع أساليب قص السيرة القديمة إلى قصها بصورة حداثوية ويتضح ذلك من عنوان هذه السيرة ، إذ دل عنوان السيرة على معادلة بين طرفين أثنين من خلال جملتين خبريتين ( مع الجاحظ ) حيث إن( مع ) تؤدي بحسب ما جاء في كتب اللغة ( مغني اللبيب مثلا ) ثلاث معان فقد تكون بمعنى موضع الاجتماع ولهذا يخبر بها عن الذوات وقد تأتي لمعنى الزمان وقد تكون مرادفة لكلمة ( عند ) وقد جمع العنوان هذه المعاني الثلاثة من خلال هذه السيرة !! أما الطرف الثاني من العنوان في شبه الجملة ( على بساط الريح ) فقد جاء فيه حرف الجر ( على ) دالا على الاستعلاء على المجرور ( بساط الريح ) وبهذا شكل عنوان السيرة القصصية هذه اتحادا تاما مع المضمون الذي نحى فيه المبدع منحا إنسانيا ، يزخر بالقيم الخلقية النبيلة .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق