عشاء لملائكة ..... نظرة نحو الوجود وتأسيس الذات بقلم : مثنى كاظم صادق



الشاعر عمر الدليمي طراز شعري خاص ، فهو يحترف التصرف باللغة ، بتجاوزه السائد من الصيغ ،
فيدخلنا ـ بهذا التجاوز ـ ليؤكد ضرورة وجوده على شاشة الحياة . عشاء لملائكة : مجموعة شعرية للشاعر عمر الدليمي صدرت ضمن مشروع أطلقته منظمة كتاب بلا حدود / الشرق الأوسط فوق عنوان وسم بـ ( كتابات عراقية ) على مدار العام 2011م وبإشراف الرئيس الفخري للمنظمة د.علي الدباغ وبرعاية شركة كوزللر التركية ، حيث كانت نصوص الشاعر الشعرية إحدى إصدارات هذه المنظمة ، هذه المجموعة تمثل ( كاتدرائية ) توزعت فيها إيقونات الشاعر بمهارة ، فنسجت كينونته الشاعرة بـ ( حيل أسلوبية ) موزعة بإحكام في جغرافية النص الشعري ، وإذ نبدأ بالسؤال : لماذا اختار الشاعر قصيدته (عشاء لملائكة ) ضمن المجموعة لتكون عنوانا لمجموعته هذه ؟ فعلى الرغم من وجود أكثر من مقترح سيميائي ، ينفتح على عدة مستويات ، لكنني أميل إلى أن تكون الإجابة هي ما كتبه الدليمي نفسه في الصفحة الأولى من الديوان ( لكنه مات )
والهاء ضمير الغائب ( الحاضر في ذاكرته) يشير بقوة إلى والده الذي رحل بقوة إلى فضاء آخر ، فحالة اليتم المبكرة للشاعر جعلته في حالة( مغنطة ) متواصلة مع والده ، فضلا عن اشتغال العنوان مع صورة غلاف المجموعة بعملية تخصيب متبادل ؛ فصورة الغلاف عبارة عن صحن ابيض فارغ تماما من أي عشاء !! محيلا بهذا على نص الشاعر من القصيدة ذاتها (( وأنت تقلي الدهشة ضع الأزل في الصحون )) !! ص 97 وكأنه يريد أن يشير ـ كما أظن ـ إلى حالة بداياته الأولى مع أخوته الصغار ( الملائكة ) أو أن قصائده هي وجبة عشاء ( غير مرئي ) لملائكة . تنماز هذه المجموعة بلغة توصيفية في أدق اشتغالاتها تنم عن خيال مكتنز ، حيث دمج الشاعر ( أناه ) بـ ( أنا ) الشعر بضغطه الهائل للمقطع الشعري وصولا إلى أقصى حالة من التكثيف (( على ضفة خريسان أريد قبري ))ص 57 (( قد لا أحسن الشعر لكني متأكد بأنني أحسَن من يتحدث عنه ))ص61 ، (( انطفأ العالم .... وصمت ... فأضاءت أصابعي وتحدثت ))ص61 (( القطط تأكل صغارها ... والعراق أيضا ))ص 63 . في القصائد سمة أسلوبية أخرى وهي نهوض الماضي فالشاعر دائما يعود إلى ذاته الأولى فيتمثلها بتراكمات مشهدية وكأنها حاضرة أمامه ؛ ولذلك قلما يستعمل الشاعر الحوار مع الآخر ( المخاطب ) في عموم قصائده ، وبالنتيجة نوع الشاعر بين الضمائر ، ولاسيما ضمير المتكلم وضمير المخاطب ؛ لكي يخلق معادلا موضوعيا مع ذاته ( المنعزلة ) (( أوصدي الباب ... ففي الجوار الكثير من العميان واللصوص أوصديه ! )) ص 37 (( أصابعي تتوجس طرقات وقناديل .. أصابعي .. أخاف عليها من الخرس فهي منذ موت ونيف لم تأن .. ))
ص49 أما المفارقة فقد اتخذت لها مواضع لا بأس بها في المجموعة ؛ لتثير دهشة المتلقي وتأمله ، ولاسيما في عنوانات القصائد ، فعلى سبيل المثال لا الحصر (( بساقين من خشب ارتقي نخلة النار )) ص 23 (( هو الذي رأى .... أعني صالح ابن صبرية الشفتاوية )) ص 31 (( رسائلSMS لا تصلح إلا لإمرأة واحدة )) ص59 . إن الشاعر عمر الدليمي ينقل لنا مأساته نحو الوجود مؤسسا ذاته الفاعلة المتفاعلة ؛ للإحاطة بحياة الشاعر ومكابداته محاولا أن يذيب ما تكلس من عذاب من خلال شعره الذي يحمل ضربا من التطور والتفرد ضمن دائرة الأصالة الشعرية ؛ لخصوصية التجارب التي مر بها بجعل القصائد تحمل مكتسبات الصدق الفني على فرضية أن المبدع قد لا يكون قد مر بكل التجارب بقدر ما يجعل المتلقي يشعر انه مر بها فعلا ، فضلا عن ومضاته الشعرية ، التي تفضي إلى دلالات كثيرة من خلال بضع كلمات كما هي الحال (( الجبل ..الجبل من هناك من جيب في خاصرته أخرج بذلة خاكية اللون وحكايات .... ومع ذلك فأنا أحب الجبل وأعرفه قبل أن أعرف كاكه مسعود ومام جلال .. أعرف أيضا القبرات وصلاح زنكنه والقبج والشقائق على سفح كلا وحسن والكثير من الجنود )) ص 68 عمر الدليمي أعاد ثقتنا بالشعر المعاصر ، بتطويعه المفردة ، وجعلها لفظة صافية تحتفظ بنغمتها ... هكذا يقدم لنا الشاعر عمر الدليمي( عشاء الملائكة ) فلا يكاد المرء أن يشبع من(عشاء ) الشاعر عمر الدليمي ، ولاسيما إذا كان ملاكا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق