.. وما أدراك ما "الهويدر" نصّ في الهَدهَدة ابراهيم الخياط

          
مثل كل القرى، آوت بساتينها جموع الرافضين للحرب العراقية – الايرانية من معارضين أو نافذين بجلودهم من الموت الحوّام، كما ضمت جذلانة سفرات الطلبة في سبعيناتنا الزاهية، وتمايلت البساتين دهراً مع اغاني (شيلي تمر بالليل) و(الدنية قبة خضرة)، وكثيراً ما كانت تصفق لقصائدنا الغضة، وتحرس المحاضر الشفيفة.
وتتباهى القرية الدمث اهلها بأن وجهاً وطنياً ناصعاً هو طلعت الشيباني ينتسب اليها، ولطالما
افتخرت ببنيها الابرار خزعل السعدي ومحمد الدفاعي وجاسم كسارة المقاومين لأنظمة الملك وشباط وصدام المنبوذين، وافتخرت ايضاً ان ابنها موفق الشيباني صار عضواً في مجلس المحافظة بعد رحيل الطاعون.
وتحسب القرية الظليلة من فألها الحسن أن فيها رجل دين بوزن الشيخ عبدالرزاق الاسدي الذي كانت أطراف المحافظة تمنحه ولاءها أيام الطاغية لأنه كان مقارعها وربما نكاية بوعاظ السلطة وابواقها، فكان الشيخ الجليل محط إعتزاز وإيثار البلدات والقرى الغافية على وسادة نهر ديالى.
بعد التاسع من نيسان سارت "الهويدر" الهادرة مع التغيير الجديد خطوة ً خطوة، فهي خرجت بقضها وقضيضها الى الانتخابات.. والى الاستفتاء.. ولما تزل تقيم طقوسها الدينية والريفية بتواصل وتبتل وبشيء من الزهو، ولسطوتها كان يخشاها أزلام أمن ديالى حتى تركوها تقيم شعائر محرم بعد منعها في جلّ العراق، فكانت تستقدم قراء ذوي صيت، والعامة من ارجاء المحافظة كانت تولي وجهها شطر "الهويدر" المعلاة للتوحد مع شجن عباس ترجمان ووطن وياسين الرميثي وجاسم الحادي.
في "الهويدر" يعيش أصلب المناضلين، وأحلى البرتقال، وألذ التمور، وأرق الفتيات المتبخترات بعباءاتهن السود، فتراهن أقماراً في دارة الليلين.
في "الهويدر" ثأر عتيق، لانها (شاكست) كثيراً، وأقلقت لردحين مضاجع الطغاة، فكيف يسامحونها، ويدعونها لحالها وهي المترعة بالجمال والنضال...
في "الهويدر" ليس من الغرابة بمكان ان يجزر القبحاء قرابينها، بل كان المستغرب لو لم يعاقبوها، وهي موئل المعارضة القزحية ايام حكم الطاغية، ثم بعد الخلاص هي إنموذج الامان وبوتقة ألوان الطيف. ولأن اعداء "الهويدر" الرؤوم هم بضعات من القتلة وما هم بمقاتلين كي يحاربوا على مرأى ومسمع الاشهاد، لذا خاتلوا جبنا وخسة فغدروا بالقرية السمحة التي صعدت آهات صغارها وبناتها واشياخها الى سماوات الوطن الجريح.
 الناجون من المفخخة الأولى.. هرستهم الثانية.. والناجون من هذه.. طالتهم الأصابع السود في مربع - بالصدفة - اسمه "الأسود".. فإتشحت القرية بالسواد، ونفد الدمع وما خلصت المآتم، نسمع من خلل الشبابيك العتيقة خنقات الانين، لأن الأحبة غادرونا، وبتنا نغبطهم اذ نبكي عليهم، فمن يبكي علينا في غد؟ إذا ما إقفرت البيوت وهي راثية.
يا تخوت المقاهي..
 يادكات الرفقة..
 يا قمريات البساتين..
 يا فضاءنا اللايفضي..
 يا سرب الأقمار أنبيك:
يا سرب الأقمار، لو هي الحوتة التي نعرف لكنا نخرج إليها بكل قدورنا وطاساتنا وصحوننا وملاعقنا وأسياخنا، ولكنها حيتان تستأنس الصخب، وتلتذ بالاضطراب، ولا شأن لها بقمر السماء، فأقمار القرى صار مبتغاها، حتى صارت تنضد رؤوسنا في السلال محل البرتقال.
يا سرب الأقمار، بتنا نبحث عن أية مناسبة تدمي حتى نستدرج دمعاً جفت صدوره من كثر ضحايانا، وبتنا من دون العالمين نزف عرائسنا بالحرير الأسود، ومن دونهم –أيضاً - لا يسمي الآباء أبناءهم، لأنهم يولدون يتامى، واباؤهم في غدوكم يا سرب الأقمار.
كان الليل ينام لوحده فيما "الهويدر" تحتضن المواجع ولا تغفو... فهي تسهر الليل - لا كما كان الساهرون يعدون النجوم - بل تعد أسماء غائبيها، فينتهي الليل والتعداد لما يزل.
 ولكن "الهويدر" الطعينة على غير عادتها زغردت في أحد صباحاتها، وتدفقت منها خلايا الدمع كأنها لم تبك من سنين، طرقت الأبواب جميعا، وفرقت الحلوى على الجايخانات، وأوقدت شمعتين، أولاهما عند المفخخة الأولى، والثانية عند الثانية، وعلى بساط من السعف حامت فوق المربع الأسود حيث فقدت عمالها الطيبين، فرمت على المكمن سلة من المشمش المتأخر، وقبل أن تعود إلى مأهولها، لم تنس ابن عميدها وهي الوفية الحانية الرؤوم، حامت لمرات ثلاث قرب جامع الفاروق وسط بعقوبة على مذبح الفتى الجسور "عادل" ابن العريق الدفاعي، ورمت برتقالة ادخرتها من أمسية زفافه، ثم آبت بالهلاهل والدموع، تبكي وجعانة، تتذكر آلها الراحلين، وتزغرد جذلانة، فهي مثل العنقاء، تنهض بعد الحطام العظيم نافضة عنها الدم والتراب واسمال البائدين.

هناك 5 تعليقات:

  1. اللهم بحق الحسين المظلوم احفظ الهويدر حبيبة الحسين والعباس ع وانصر اهلها الطيبين

    ردحذف
  2. اللهم احفظ اهلها جميعا من كل سوء

    ردحذف
  3. أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.

    ردحذف
  4. يالهويدر
    ماأجملك وسبحان الله الخلقك

    ردحذف
  5. يالهويدر
    ماأجملك وسبحان الله الخلقك

    ردحذف