قصة قصيرة : صحوة الضمير / ماهر نصرت

في الخامسة  فجراً من كل يوم نذهب نحن فتيان المدينة بأجسادنا الهزيلة ووجوهنا الصفراء البائسة وعيوننا النعسة لنتجمع كالجند في ساحة العرض أمام أنظار أبو إيهاب الرهيب مقاول البلدية المعتق ورجل الرشوة المخضرم المشهور بالقسوة والظلم والمراوغة وأكل مال اليتيم والسطو على العقود الدسمة بعد  سهرةِ خمرٍ ونساءٍ وعشاء يقضيها بصحبة رجال المدينة أصحاب الجيوب الممتلئة والكروش المنتفخة الذين يسيطرون على عقودِ العمل ويمنحوها لمن يشاءون .
بعد إكمال مراسيم تعدادنا الصباحي وإعادة قراءة الاسطوانة اليومية المليئة بالسبِ والشتمِ والتهديد بالطرد والحبس وقطع لقمة العيش ، تنقلنا عربات قديمة نحن جموع الزبالون أنصاف البشر إلى أحياءِ مدينتنا الجرباء ونبدو بملابسنا البيضاء المرقعة عندما نتموج في أحواض عرباتنا العرجاء كأننا خرافٌ مُتراصة تساق لأجلها المحتوم الى مجزرة المدينة ....
 في نقطةٍ ما خلف مرأب البلدية يتفرق رتل سياراتنا الفوضوي وتتجه كل مركبة بما حملت إلى الحي المخصص لها لإنزال مجموعتها المجوقلة ، هناك وسط الاهانة واللاكرامة  نقوم بجمع القمامة في أكوام رئيسية لكي نعبئها بسيارات حملٍ تصلنا وقت الظهيرة يقودها سواقون ،  عبسون ، متمردون ، متكبرون ، يرفعون أنوفهم نحو السماء ...
 كنت أتحايل على منظم العمل السوبر مان ( صلاح صرصر ) لكي أصطف مع أصحاب المركبة التي تذهب بعمالها إلى حي المعلمين جنوب المدينة ، ذلك الحي المهمل ذات الرائحة النتنة الذي يعشعش فوق القمامة المتحجرة منذ عشرات السنين ، هناك بجانب إحدى المستنقعات يعلو بيت فتاتي الجميلة .. شقراء جريئة تقف كل صباح عند نافذة الغرفة تترقب حضوري ( أنا طبعاً ) ، وعندما تراني أهبط بعدتي مع رفاقي الآخرين تقفز فرحة ..هذا ما أتأكده من خلال نظراتي الخاطفة التي أتلصص بها خوفا من أن يراني مراقب القاطع ( سلامة الأعور أبو كفشة ) أبن خالة  مسؤول البلدية  ، ذاك المتخلف الذي يمتلك نظارة عجيبة  سرقها من سيارة همر أمريكية بعد أن رقص
( الجوبية ) أمام جندي أمريكي يدعونه كامسي ، فأعجب كامسي هذا ورفاقه بدبج صاحبنا أبن حمدية أم كفشة ، بعدها أدخلوه القشامر داخل سيارتهم الهمر ليتناول معهم الطعام فسرق منهم تلك النظارة ، كانت نظارة عجيبة يظهر من خلالها الشخص عارياً  تماماً !. من فضلكم سأعود بعد قليل ، فقد وجدت كيساً جديداً  للقمامة عسى أن أجد فيه شيء أبيعـــــه ..( هيا أنفتح  طاخخ ....بخ وخ فس رخ  .. طاخ  ..) ماهذا ؟؟؟ لاشيء سوى صفائح فارغة وأشياء تافهة .... يا ألهي ماذا جرى لهؤلاء الناس ؟ حتى أزبالهم أصابها الجفاف هذه الأيام .....
كان واجبي رفع القمامة من الشارع الفرعي الثالث المحشو بأزبالٍ عجيبة وأشياءٍ أخرى لاأريد أن  أذكرها ، كانت مساكنهم واسعة ذات تصاميم متشابهه ، تشابكت فوق نوافذها الأغصان وزحفت على هياكلها نباتات التسلق العجيبة حتى ظهر بعضها وكأنه مهجور تنتشر تحت سقوفها وعلى جدرانها شبكات العناكب والحشرات الغريبة وفصيلة تجسس متطورة من أبو بريص وأم  بريص ذلك التمساح الصغير الوقح الذي يراقبني طويلاً بعيونه المنتفخة كلما مررت من هناك .
 رحت أخطو بغباء نحو مسكن فتاتي الذي يقع عند نهاية شارع مسئوليتي بعد أن نفذ صبري وجنت عاطفتي حتى وصل شغفي بها الى أن أهمل تنظيف عشرات الأمتار من مساحات قاطعي مما أثار غضب ذلك الحاقد سلامة الأعور أبو كفشة سارق النظارة الخلاعية . كان الأعور يراقب فتاتي هو الآخر ولكم أحسسته منشغلاً بها فقد رأيته في أحدى المرات يبادلها إشارات لم أفهم معناها  .. ضبطني ذات صباح وأنا أطرق باب بيتها بحجة جلب كيس القمامة ، أقترب مني مزمجراً يُريد أن يبتلعني كما يفعل توم لجيري ! فتحت فتاتي باب مسكنها وأخرجت رأسها وقالت لي بعنف ( ماذا تريد ياولد  ! ) وبلا وعي قلت لها ( أريد أن أكون في الإطفاء ) لاأعلم لماذا أجبتها هكذا ؟
صرت أرتجف أمامها .. . وراحت شفتاي وقدماي ترتعشان ونسيت نفسي فقد هرب عقلي وأغمي على روحي.... حملني جمالها الجذاّب وسحر عينيها الخضراوين ورموشها الجميلة بعيداً فوق البحر والمديات … أُطارد الأحلام وأعدو وراء النسمات ، لا أدري ما حلّ بي ، هل مازلت على الأرض أقف على قدمي  ؟ أم انا طائراً أحلقّ فوق السحاب   ؟ …كانت رائعة ببشرتها الشقراء الناعمة وشعرها الناعم الحرير ...  ينتابني أحساس بأن فيها شيئاً من  ملامح أمي التي ماتت عند ولادتي كما كان يوصفها لي أبي .  
فجأة ، أيقظني  صياح ذلك الإخطبوط الذي كان يقف ورائي ، أحسست بالخوف  وقررت أن اهرب ولا ألتفت خلفي ، لا أدري ما أصنع ، رحت أرى الفارق الكبير بيني وبين هذا الملاك المُنزّل … من أكون أنا لكي أتقرب من ذلك الكائن الرائع ؟؟  لا.. لا لست أنا فارسك  يا جميلة الجميلات ، أنا عامل قمامة لا أساوي شيئاً وسط مجتمعي هذا ، أنا شخص محتقر! أنا لست أنساناً ، أنا كائن مسخ أتنقل بين الأحياء لأحمل أوساخ البشر وأرفع ما يسقطه الناس ! أنا بلا كرامة  ترافقني صفات الحثالى وتقشعر مني الفتيات ! أنا حشرة تجوب الشوارع تبتلع ما يخلفه البشر ! يجب أن أهرب .. هيا أسرع ياهذا لاتتوقف هيا .. ولكن مهلاً ، لماذا أحمل معي كل هذا الذل كما قالها رفيقنا الزبال أشرف جرادة قبل ان يهرب هو الآخر الى البلاد البعيدة ؟ من أجلِ حفنةٍ من الدنانير التي يمنحها لي ذلك المقاول النصاب ( أبو أيهاب ) مصاص الدماء ؟ ألستُ أنساناً خلقني الله كما خلق هولاءِ ؟ لا بل أنا أفضل من أولئك المتكبرين الذين أعمل في أحيائهم ،  أصحاب الفخفخة الكاذبة والوجوه العبسة والبيوت الممتلئة بالطعام الذي سلبوه من أفواه الجائعين  .
 لا أُريد أن أبقى هنا أبداً بعد اليوم ، ولكن أين سأذهب فأنا وحيد فوق هذه الأرض ، ماتت أمي وهي تلدني  في بيت الجدة أم جبار الملاية ، لم أرها في حياتي ، أعطاني أبي ثوبها الوحيد قبل أن يموت هو الآخر ، فيه رائحتها ، رائحتها رائعة ، أشمها كل يوم عند الفجر قبل أن اخرج الى العمل  واعيده في كيسه بغرفتي الخشبية الصغيرة خلف حمام المدينة ، لم أشم رائحة مثلها في حياتي عندما تتغلغل في أحشائي أشعر بالدفء والحنان والأمل ، تجعلني تلك الرائحة أحب الدنيا .. أحب الخير .. أحب الزهور والطيور والشجر .. أنه ثوب ساحر ، تتقمصه روحك يا أمي الحنون ،  أين انت الآن ، أني أعلم انك تنظرين اليّ من كوة صغيرة في  السماء ، وتدعين الله ان يحفظني .. أليس كذلك ، أنا اعلم يا أمي ... أعدك أني  سأتزوج لتنجب زوجتي فتاة تشبهك ،  يجب أن أهرب ، من أجلك ياأمي ، من أجل أبي أيضاً الذي كان يحبك حباً لايوصف  ، كان يبكي عليك كثيراً ، كنت أشاركه البكاء دون أن يعلم  طول الليل ، اشعر بروحك تحوم حولي  الآن ، لمسات كفك الرائعة يقشعر لها جسدي  ، أمي ، هل رأيت وجهي عند ولادتي  ، هل لمست جسدي بيدك قبل أن تموتي ياأمي ، كيف كان وجهك..كان جميلاً كما قال أبي أليس كذلك ..  سأرحل من أجلكما أنتما الاثنان الى دولة تحتضنني لأتزوج هناك ،  سأتوجه إلى بلاد ( السويويد ) بجانب دولة ( الديميمارك ) كما يقول صديقي الحمّال ( تحسين واوي ) خبير الإنكليزي وسأصل الى هناك بأي ثمن كما وصلها ( أشرف جرادة  أبن قاسم  عفصة ) قبل سنتين ... هناك حيث الحياة والنساء والدينوقراطية كما كتب لنا جرادة في رسالته التي أرسل معها ورقة دولارات مزورة لأمهِ المسكينة التي أصيبت بسرطان القولون ،  آه .. كم كانت رسالة رائعة خاصة عند تلك السطور التي يحكي لنا فيها عن قصتهِ الريمانسية مع الفتاة السويودية سليمة ريتشارد أو سيلي ريتشارد ، لاأعرف أيهما أصح ، وما كانا يفعلانه معاً على ساحلِ البحر خلف الصخور ، سأعملِ مع أولئك الذين يحبون الإنسان ويحشونه بالكرامة ، أني قادم ياسويود ، أني قادم يا أرض الفرنجة سأتزوج فتاة منكم ، سأهجر مجتمعي  الذي يحتقرني منذ طفولتي  كما كان يحتقر والدي الحمال ( بدران خنجر ) ، سأهجر خرائب حضارتنا وتفاخرنا العقيم بماضينا العتيق الذي لم ينفعني بشيء ، سأهجر آبار النفط وبساتين النخيل التي زادتني بؤساً وحسدا .
استفقت من حلمي هذا على زعير الحمار سلامة الأعور الذي كان يرتدي نظارته الرادارية وهو يصرخ بوجهي بعد أن لكمني وركلني وصفعني أمامها  بحقدٍ ولؤم  ووحشية ( هيا يا كلب ، ياصاحب اللباس الممزق ، ياأبن الحصيني ، ياحشرة ، هيا أرفع كيس الأوساخ وأرحل .. بسرعة .. هيا )  نكستُ رأسي نحو الأرض وحملت كيس القمامة فوق ظهري ومضيت مُحطم الكرامة والخطى نحو رفاقي في نهاية الحي ، خلف مسكن طالب عصفور ، حيث القمامة والضياع .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق