الفنان الراحل جعفر عبود ....طائر حطّ على سبأ ( الانتماء والرحيل ) بقلم: حاتم جعفر

 
الى أخوة جعفر, حيدر, طالب ومن نسيتهم
قلق ظل يساوره كما ساور الاخرين من قبله وسيظل كذلك لمن سيأتي من بعده, فالاختيار ليس سهلا والطريق الى الحرية ليس سالكا ببساطة كما يظن البعض, ففكرة الانتماء, أي انتماء سينطوي على شكل من أشكال التحدي والمجازفة سيظل يؤسرك صباح مساء حتى وان لم تبح به, ففي بلدان العالم المصنف على خانة الديكتاتوريات الشديدة البطش, يعد لجوءك الى خيار المعارضة للحزب الحاكم وللفرد الحاكم مهما كان حجم وشكل وطبيعة هذا الخيار, يعد ضربا من الانتحار, وينطوي كذلك على الاستعداد الدائم للتضحية, وقد يكلف ذلك حياتك وانت لم تزل بعد في الربع الاول من انتمائك السياسي, فلا بد اذن من التأني والتريث واعادة الحسابات أكثر من مرة.
ولطالما نحن في وارد سبر شخصية الغائب الحاضر الفنان جعفر عبود فلا بد من العودة الى بعض المعطيات التي توفرت من هنا وهناك, مضافا لها جملة من الانطباعات الشخصية التي قد يتفق عليها البعض و يختلف عليها البعض الآخر, والحديث هنا عن انتمائه السياسي تحديدا, فصاحب الذكر نصفه يساري الهوى ونصفه الآخر هائم في عالم من الخيال والبحث عن نغمة من الجمال تطمأن لها الروح الأمارة بالسعادة الابدية. هذا ماقيل عنه أو ما رماه البعض به وما لم ينكره أيضا.
ولأنه عاش في ظل نظام المصادرة والقبضة الحديدية, وكغيره من الحالمين بغد من الحرية ملؤها السماوات والارض وما بينهما, فقد وجد نفسه مضطرا للاستعانة بالصمت والوحدة والحذر, كأشكال مجربة وضرورية لتفويت الفرصة والانفلات من قبضة الرقيب, ليدخل راصديه وعسس الليل والنهار في ضرب من التخمين والتنجيم وحيرة كذلك في حقيقة انتمائه. ربما رأى جعفرا في نهجه هذا ردا مناسبا على ما أعتبر تهمة آنذاك, غير انه وحين يطمئن لنظافة المكان والحاضرين فلا يتردد في الافصاح عما يجول في خاطره, وعند هذه اللحظة يكون للكلام الصريح والمباشر, القول الفصل في اختبار منسوب الشجاعة والثبات على المبادئ, وهذا ما كان عليه.
واذا كان للانتماء ما يعني الانحياز الى الحقوق المشروعة للشعوب فهو منحاز دونما التباس أو اجتهاد في ذلك, غير انه كان مختلفا في وسائل تعبيره وهذا أمر مشروع ومفروغ منه بحكم طبيعة أدواته التي يستخدها في كيفية قراءة الواقع وبالتالي كيفية التصدي له, وعند هذه النقطة قد يأتي متقاطعا مع الكثير من التعبيرات الايديولوجية المحكومة بضوابط وروابط, يرى فيها تقييدا لتطلعاته وتضييقا على حرية حركته, لذا كان جعفر حريصا على الانطلاق نحو عوالم أكثر رحابة, غير عابئ لفكرة الالتزام بمدرسة فنية بعينها.
وانسجاما مع تطلعاته الفنية تلك, كان طيب الذكر ينهل من هذا وذاك, وصولا الى تحقيق اهدافه الانسانية النبيلة, كاشفا ومن خلال أعماله الفنية عن طاقة ابداعية هائلة, أراد لها أن تتحرر وتحلق بعيدا دون سقف أو شرط, ليجسد بذلك فلسفة, حرص على العمل بها حتى مغادرته الحياة الدنيا. اشترك بالتأكيد في قناعته هذه مع آخرين من هم بشاكلته, مفادها ( خطوتي لوحدي غير أني أسير مع الجميع ), ولا بد من التسجيل هنا بأن الكثير من الفنانين العالميين قد سبقونا في فكرة التحرر من تلك القيود التي يؤطرها السياسيون, والحديث هنا لايدور عن صحة هذا الخيار من عدمه وانما مرتبط بالضرورة بأدوات عمل الفنان وبحساسيته وباشكال التعبير والفضاءات التي يتحرك بها.
يمكننا القول هنا بأن جعفرا الفنان, قد نجح في وضع مسافة مريحة بين منهجه الابداعي الذي اعتمده وبين خياره السياسي الذي يأتي متسقا وانحيازه لجهة اليسار, وبشكل لاتتقاطع احداها بالاخرى,مستشعرا بذات الوقت بتصاعد عمليات القمع, وتوصله الى قناعة لايدانيها الشك تؤشر الى ان لعبة الصمت التي استعان بها لتحييد من يتربص به شرا قد استنفذ مفعولها, ومما عزز لديه هذه القناعة هو تعرض اخوته الى الاعتقال التعسفي من قبل الاجهزة الامنية في المدينة, ففي الحالة الاولى تعرض شقيقه الاكبر الى الاستدعاء والتحقيق, بتهمة المس بهيبة الدولة أو نحو ذلك, اثر وشاية من أحد صغار القوم أو مايطلق عليه في ايامنا هذه بالمخبر السري, السيء الصيت والسمعة. وفي الحالة الثانية تم اعتقال شقيقيه الاصغر بتهمة الانتماء الى احدى التنظيمات السرية المقارعة للسلطة, فالدار اذن لم تكن آمنة ومن غير المستبعد ان يكون مصيره كما أخوته.
التطورات الدراماتيكية التي حدثت في بلاده والتي أخذت منحى خطيرا جدا, أجبرته على اتخاذ قرارا عدّه تغيرا نوعيا في حياته غير انه أجبر عليه, أنه الرحيل الى بلاد ليست بلاده, فتراه في ساعته الاخيرة كما حاطب الليل أخذ يجمع وعلى عجل ما تيسر له من لوازم السفر, وراح يجوب ثنايا نزل كان حتى لحظات خلت مستقره الاول واراده ان يكون الاخير, تلمّس برفق أحد جدران بيته, راجعا بذاكرته الى عقود خلت حين كان صغيرا, يداعب هذا ويشاكس ذاك واسترسل قليلا في رجعه البعيد, وفي لحظة مفاجئة أوشك على التراجع غير انه استفاق ثانية ليخرج مسرعا غير انه ترك الباب مواربا علّه يعود عن قراره.
قال لصاحبه الذي بجانبه : ماذا لوهبطت الطائرة قرب مأذنة في الكرخ أو بستان في العشار؟ بعد برهة ليست بالطويلة أعلن وصول الرحلة المرقمة ..... الى مطار .....أومأت بلقيس ملكة سبأ لحاجبها أن يفتح باب صنعاءها للغريب القريب, ترجّل جعفر بحقيبته الصغيرة وراح يدور بين درابين المدينة ودور عبادتها حتى حطّ استراحت قدماه في بيت الثقافة, واهبا شعب اليمن السعيد الوان الطيف السبعة وخطوط الطول والعرض وفنون الرسم ومدارسها, لم يدم به المقام طويلا وفارق الحياة الابدية على حين غفلة, غير ان روحه أبت الاّ ان تعود الى بئرها الاول حيث نهر خريسان وحيه العتيق وبقي جسده مسجّى هناك في حديقة الغرباء, تعلوه باقة ورد عطرة, تفوح منها رائحة القداح والاهل وكانت تلك لوحته الاخيرة.
جعفر عبود, فنان عراقي ولد في مدينة بعقوبة عام 1952 وفارق الحياة في جمهورية اليمن عام 2008

هناك 6 تعليقات:

  1. استاذي ومعلمي ، جن كان جاد في عمله، فاللهم ارحمه بواسع رحمتك

    ردحذف
  2. رحمة الله عليك يااستاذي رحمة الابرار كنت الأب الروحي لي في فترة دارستي معك كنت لي العون بعد الله . على روحك السلام

    ردحذف
  3. رحمة الله عليك يا معلمي العزيز لقد كنت نعم امعلم
    وقد شكل رحيلك صدمة مؤلمة عانيت منها لسنوات
    لم استطع نسيانك رغم مرور السنين فعلى يديك تخرجت افضل دفعة في قسم الفنون سنة 2000م ....
    (( يحيى محمد الحكيم)) احد طلاب المرحوم بالمدرسة الفنية بصنعاء ...

    ردحذف
  4. الله يرحمه ويسكنه فسيح جناته لم استطيع نسيانك الي يومنا هذا يامعلمى تخرجه من قسم الفنون سنه ٢٠٠٦م محمد البرطي

    ردحذف
  5. كان حقا اول حياته يساري الهوى لكنه بعد استقراره في اليمن اقترب الى الله كثيرا . الله يرحمه ويعلي مقامه في الملكوت الابهى

    ردحذف
  6. الله يرحمه ويحسن مثواه وإنا لله وإنا اليه راجعون

    ردحذف