أوراق الأمس – حديث المكان من ذكريات ايام زمان / التلفزيون في بعقوبة / بقلم الاستاذ عبد الحميد محمود ابو عزت

أصدقائي الأعزاء : أنشر لكم اليوم المقالة الثالثة من مجموعة مقالات ، كتبها الأستاذ عبد الحميد محمود " أبو عزت " ، وهي جهد حقيقي وجاد في توثيق ماضي بعقوبة والحياة اليومية التي كانت سائدة آنذاك . أرجو منكم إبداء الملاحظات عليها لأستكمال الصورة ، علما بأني لم أتدخل في لغة أو صياغة المقال ، وأنشرها كما وردتني .
في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي ، أقيم المعرض الصناعي البريطاني في بغداد ، ومن ضمن ما عرض فيه محطة تلفزيون لشركة پاي (PYE) الإنكليزية . وقد أدهش هذا المعرض وهذا الجهاز العجيب أهل بغداد في وقته ، مما حمل حكومة نوري السعيد على مفاتحة الشركة لبيع الأجهزة ونصبها في بغداد على أن يكون تابعاً للحكومة العراقية. وفعلا تم شراؤه ونصبت الآلات والكاميرات في سقيفة تدعى (البنگلة) مجاور دار الإذاعة في الصالحية ليشكل نواة أول محطة تلفزيون في الشرق الأوسط . وقد تم افتتاحه بصورة رسمية ليبث لساعات محدودة وبمدار بيضوي لا يتعدى عدة كيلومترات يغطي أقساماً من بغداد .
كان من أوائل المذيعين فيه (عادل نورس) و(محمد علي كريم) وقد كانت البرامج تبث بصورة حية وعلى الهواء مباشرة، ومن أشهرها برنامج (أم علي) الذي كان يقدمه المرحوم عبد الجبار عباس بعد ان يرتدي زي أمرأة وهو برنامج فكاهي أحبه الناس، أو برنامج قره قوز الذي كان يقدمه فنان يدعى عامر عبد الرزاق بنفسه، بعد أن يرتدي ملابس ملائمة ويعتمر ما يسميه العامة (كلاو). وكان هذا الفنان يقدم وصلات غنائية فكاهية وإنتقادية ، وأحيانا كانت
تقدم مسلسلات مثلا لاسي وهو كلب مدار حلقات المسلسل، أو فيوري وهو حصان ضمن حلقات ذلك المسلسل بأسلوب من المغامرة والتشويق . وطبعا كان البث بالأبيض والأسود والصورة تظهر بنقاوة مختلفة تبعا لقرب أو بُعد المحطة ، وشاع صيت هذا الجهاز في بغداد وبدأت محاولات تقوية البث ليصل إلى الألوية القريبة ( المحافظات حالياً). وأول من فكر بجلبه إلى بعقوبة عائلة كانت تمتهن بيع الأجهزة الكهربائية وهي وكيلة الشركة العراقية – الأفريقية في وقتها. وهذه العائلة هي عائلة (محمد المقصود) وأبناؤه . وقد كان محلهم يقع في سوق بندر الذي تهدم وأعيد بناؤه في التسعينيات وأوئل الألفين. وعندما شاع خبر وصول هذا الجهاز العجيب تقاطر الناس مساءً على ذلك المحل لمشاهدة هذا الزائر الغريب. وقد كان البث يبدأ في السادسة مساءً ، ويُفتتح بالسلام الملكي ، وبعده القرآن الكريم ثم صور متحركة وبقية المواد . كانت الصورة تبدو كأشباح مشوشة يملؤها النمش وذلك لضعف البث آنذاك ومع ذلك فقد بقي الناس يتابعون ما يعرض بشغف وشوق بين مصدق ومكذب لما يرى ، فمنهم من قال أنه سحر وآخر قال كيف تقبلون أن يجلس الرجل في هذا الصندوق الصغير ليتحدث ، ومنهم من قال أن ما يظهر من صور متحركة ما هم إلا أطفال يرتدون ملابس الحيوانات ، ومنهم من أشاح بوجهه لأنه حرام. وكان حديث الناس لأيام وأيام . بدأت بعض البيوتات تقتنيه ليكون سمير المحلة فكان ذلك البيت يمتلأ مساءً بأهل المحلة ليتابعوا البرامج من البداية حتى النهاية في جو من الحب والألفة والمودة الصادقة بين الجيران . ومن أشهر الماركات في وقتها هي: سيرا وفيلبس و سانيو . 
وعندما حدثت ثورة 14 تموز 1958 أخذت المحطة تنقل صوراً حية من احتفالات الناس وابتهاجها.. ثم تطورت بعد ذلك الأجهزة والبث ، وجاء التلفزيون الملون ثم بعدها بدأ غزو المحطات الفضائية لتنقل الحدث من أبعد مكان في العالم ليصل إلى المشاهد وهو جالس على كرسيه في غرفة مكيفة أو مقهى أو محل.
ترى ماذا سيقول أولئك الناس البسطاء الذين لم يصدقوا ما ظهر لأول مرة على الشاشة ؟ أنهم حتما سيصابون بالدهشة والتعجب . وصدق من قال : أن العالم قرية صغيرة الآن ولا حدود للعلم . وصدق الله في كتابه العزيز ( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا)
وللحديث بقية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق