سعد محمد رحيم : صورة المثقف مخذولاً وضحية

ليست العلّة في الإيديولوجيا دائما، ولا أحد بإمكانه أن يتحرر كلياً من موجهاتها، ولعل شيئاً منها يعد ضرورياً كي لا نقع أسرى التفكير المجرد البارد وحده. لكن ثمة مثقفين تستعبدهم إيديولوجيا بعينها فيرهنون بقوالبها المتكلسة آراءهم وتصوراتهم وتخريجاتهم الفكرية، يقيّمون العالم وحوادثه في ضوئها، ولا يراجعونها أو يتراجعون عن خطوطها المؤشرة بصرامة حتى وإن قال الواقع والتاريخ وحركة المجتمعات شيئاً مختلفاً. فمن أسوأ السلطات التي تحبس المثقف في دائرة تفكير خانقة، أو تضعه على مسار ضيّق لا يستطيع أن يحيد عنه هي سلطة الإيديولوجيا، حين تشكِّل للذات سياجها الدوغمائي، وتحدد نطاق حركة الفكر واتجاهه. وكان المثقف العربي، قد أوقع نفسه في هذا الفخ مذ بهرته البريق الرومانسي للإيديولوجيات الراديكالية، الشيوعية منها والقومية، ومن ثم الدينية ( الإسلام السياسي )، فراح ينتج خطابه من وحي هذه السلطة/ الإيديولوجيات مروجاً لها وناطقاً باسمها وداعياً إلى الأخذ بها. بدأت الحركات الراديكالية ( القومية والشيوعية ) منذ النصف الأول من القرن العشرين، بأحلام كبيرة متضخمة، بوعود عن عوالم متخيلة زاهية، مشربة برومانتيكية جذابة.. كانت الوعود مبهرة إلى حد أنها تسبب العمى.. تحجب الواقع واتجاه حركته وترسم صورة مضللة بديلة عنه. وعلى الرغم من استنادها إلى مقولات التاريخ والعلم والتطور والتقدمية والصراع الطبقي والقومي والحرية والتمدن والاشتراكية العلمية ( أو العربية ) إلا أنها في حقيقة الأمر كانت ترضي النزعة القدرية عند الجمهور ونخبته، كما لو أن الاجتماعات الصاخبة والاحتفالات والهتافات والشعارات الرنانة باتت مكافئة للطقوس الدينية في المعابد، وكما لو أنها تنطوي على طاقة سحرية ستقلب الدنيا على رؤوس الأعداء، وستحرر الأرض وتنبت الزرع وتقيم المصانع والمؤسسات وتنير المدن والقرى وتحق الحق وتزهق الباطل وتحقق الحرية والعدالة والوحدة المنشودة من غير الحاجة إلى العمل الجاد المضني العقلاني الذي يحوِّل الواقع في ضوء رؤية إستراتيجية تاريخية. وحتى التضحيات الجسام وقوافل الشهداء كانت تؤدي دور القرابين في المذابح المقدسة لإرضاء قوة ميتافيزيقية علوية تسمى تارة ( الحتمية التاريخية ) وتارة ( منطق التاريخ ) وتارة ( إرادة الوطن والأمة ). هكذا من غير الالتفات إلى حقيقة أن الشعب نفسه مسلوب الإرادة ومكبل ويعيش في حالة من التخلف الاقتصادي والثقافي والاجتماعي، وأن التاريخ هو في نهاية المطاف من صنع البشر، وأن الحتمية والضرورة مرتبطتان بالإرادة الفاعلة والتخطيط العقلاني السليم والعمل المنظم والممأسس. كانت نيات كثر من مناضلي الحركات الراديكالية سليمة، وكانت تضحياتهم حقيقية، لكن لا النيات السليمة وحدها تكفي، ولا التضحيات وحدها تجترح المعجزات، لذا صارت هذه التضحيات، في حالات كثيرة هباءً منثوراً، من غير تحقيق شيء ملموس على الأرض.. هنا تحوّل المثقف من حالة النشوة إلى حالة الإحباط..من الأمل الكبير إلى اليأس. ومن الثقة بالعالم والتاريخ والشعب إلى الشعور بالخذلان والخسران. وبدلاً من أن يجعله هذا التحوّل المؤلم يستيقظ راح يصب اللعنات على الإمبريالية ومؤامراتها مرة، وعلى التطبيق الذي لم يرق إلى مستوى النظرية مرة، وعلى الشعب الجاهل بقيمه الموروثة مرة ثالثة. وكأنه نسي أن عمله منذ البدء كان قد بدأ تحت يافطة النضال ضد الإمبريالية والاستعمار والعدو الطبقي والقيم البالية في المجتمع وضد حالة التخلف والتشرذم.. تلك القوى كلها التي هزمته وهزمت مشروعه. وإذا به ينزع عن نفسه، من غير أن يدرك، صورة الطليعي المناضل ليضع بدلاً منها صورة المخذول والضحية.. المخذول الذي تنكّر لأحلامه الواقع الأصم، والضحية التي تشكو غدر الزمان وتقلب الرياح التي لم تهب بما تشتهي سفنها، لتمعن في جلد ذاتها، وتلعن حظها، وتقرّع المقادير وأحوالها والرياح غير المؤاتية. كانت الإيديولوجيا هي صلة الوصل بين المثقف وعالم السياسة. وإذا كان هذا العالم، بمسرحه المعاصر، بحاجة إلى المراوغ البراغماتي المرن والماهر في التكيف مع المتغيرات كان المثقف الإيديولوجي يقسر الواقع في ذهنه ليكون على مقاس الإيديولوجيا. وإذا بالتاريخ ينكل بالإيديولوجيا، يمزق ردائها الضيق ويكشف عن اهترائها، عن محدوديتها وتيبسها. يفقد العقل الإيديولوجي ديناميته واستقلاله، بمرور الوقت، ويتحول محتواه إلى مجموعة من المقولات الجاهزة والمعايير العمياء الجامدة، فتتحدد صحة أو خطأ الأشياء والأفكار وفقاً إليه، على قدر مطابقتها أو مفارقتها مع تلك المقولات والمعايير. إن الإيمان المفرط بالإيديولوجيا يفضي شيئاً فشيئاً، إلى ضعف الصلة بالواقع، وتبلد الحس التاريخي عند المؤمن به. فلا يعود يرى من الواقع سوى الصورة المسطحة الساكنة التي كونتها الإيديولوجيا عنه. وتنفصل حركة التاريخ عن الرؤية التي لن تعود علمية، أو جدلية. أما مفاجآت الواقع والتاريخ، فيما بعد، فلا بد أن تخلق شعوراً عارماً بالمرارة والخذلان. والغريب في الأمر أن بعضهم تأخذهم العزة بالإثم فيستغرقون بالتسويغات غير المقنعة، أو يخطِّئون الواقع والتاريخ بلا حياء، كي لا تًمس معتقداتهم بخدش من أي نوع.. إن هؤلاء محصنون بالضد من المراجعة والنقد وإعادة التقويم. وفي النهاية يتحول المعتقد الإيديولوجي إلى دين جديد، لا يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه، حتى وإن ادعى حاملو المعتقد بأنهم علمانيون أو دياليكتيكيون أو تقدميون. كان الفكر الذي آمن به المثقف العربي الراديكالي ذا صبغة أو بنية دينية، من حيث استنادها إلى مسلمات يقينية مسبقة حتى وإن ارتدت الثوب العلماني، تعيد إنتاج إيديولوجية وُضعت أقلامها وجفت صحفها. والمثقف الذي آمن بالنظرية بشكل أعمى كما لو أنها من وحي سلطة علوية مطلقة قد حوّل نفسه إلى كاهن ( أرثوذكسي ) متزمت من غير أن يفطن، كأنه بصدد مهمة رسولية دقيقة عليه أن يخلص لها بعبودية واستسلام. المثقف المخذول: المثقف المخذول هو المثقف الذي خضع طويلاً لسلطة الإيديولوجيا. وربما لا يكون قد انتمى إلى حزب أو تيار سياسي، لكنه آمن بمنطلقات إيديولوجية شوهت أمامه صورة الواقع وأعطته أفكاراً مضللة عن قواه واتجاهاته وتناقضاته وصراعاته.. إنه المثقف الذي صنع وهمه وصدّقه.. أحل الأمنية والحلم محل الواقع.. رسم صورة زاهية عن مجموعته السياسية، أو عن جماعته البشرية موارياً تناقضاتها ونقاط ضعفها ومشكلاتها التاريخية، ووضع تصوراً ذهنياً ( لا إستراتيجية عقلانية وواقعية ) لصراعات سريعة وحاسمة تطيح بالأعداء الداخليين والخارجيين ( الحقيقين والمفترضين ) وتغير مجرى التاريخ. بالمقابل قاد خذلان المثقف إلى خيبة عند جمهوره الذي تحمس وتظاهر وهتف وصفق، ثم اكتشف أن كل ما حُشر في ذهنه لم يكن سوى حفنة من الأكاذيب والصور الخادعة.. هذا الجمهور نفسه انتهى اليوم، كما يقول أدونيس، ويضيف؛ "وإذا لم يكن قد انتهى فإننا لم نعد نرى منه إلاّ بقايا خائبة، وشبه يائسة". ولكن من أين جاء هذا المثقف؟ شريحة واسعة منهم هم ضحية قراءات مبتسرة، ذات شحنة سحرية تحقن القارئ بالحماس وتوهمه أنها تعطيه الأجوبة كلها دفعة واحدة. ليمتلئ بالغرور فجأةً، معتقداً أنه بات يعرف كل شيء عن الفكر والحياة والكون والماضي والحاضر والمستقبل.. هذا النمط من الثقافة والتثقيف مسؤول، في ظني، عن جفاف ضروع الإبداع الفكري لمدة طويلة عندنا. هذا المثقف، وعلى الرغم من تبجحه بفهم التاريخ وقوانينه إلاّ أنه كان غريباً عن حركة التاريخ.. لم يكن يرى حقيقة تلك الحركة، بل الصورة المتخيلة عنها التي هي نتاج تفسيره ( أو تفسير الآخرين ) الخاطئ، في الغالب، للمنهج والنظرية.. ما كان يريد أن يصدق أن الواقع التاريخي يقول كلمة مغايرة ومختلفة عمّا في رأسه الغارق في الاستيهامات. وواحد من أهم أسباب خذلانه هو فشله منذ البدء، على الرغم من ادعاءاته في ربط الفكر بالممارسة. فلم يستطع أن يجعل من فكره دليل عمل في الممارسة، وأخفق في إغناء فكره وتطويره ونقده في ضوء معطيات التجربة.. كان الواقع أعقد بكثير من رؤيته التبسيطية.. الواقع الذي كان يتخذ في كل مرة مسارات غير متوقعة، وينطوي على مفاجآت. وقد كان فكره، على حد تعبير أدونيس "نبوئياً، نضالياً يُعنى بالإنشاء البلاغي ــ العاطفي، أكثر مما يُعنى بالأشياء والوقائع. كان يتوهم اكثر مما يتأمل. وقد أفقده الواقع ــ في واقعية تطوراته ــ مصداقيته كلها". وقد انساق هذا المثقف المخذول وهو تحت وطأة الشعور بالإحباط والفشل إلى تمثيل نفسه في صورة أخرى، كنوع من التعويض السلبي؛ هي صورة المثقف الضحية. المثقف الضحية: أن نقول عن مثقف ما أنه ضحية، فهو، مثلما توحي العبارة للوهلة الأولى، ضحية سلطة معينة، أو شبكة من السلطات القائمة ( الحكومة، المؤسسة الدينية، المؤسسات الاجتماعية )، دخل معها في مواجهة غير متكافئة فانتهى به الأمر أن يكون ضحيتها، ليتولاه عندئذ شعور أليم بالخسران والظلم. وإذا كان قد اختار المواجهة بمحض إرادته فعليه، منطقياً، أن يقبل بمصيره الذي يجب أن يكون قد توقعه وارتضاه، وليس هذا ما نقصده في هذا المقام. كما لا يعنينا، كذلك، المثقف الذي يكون جزءاً من مؤسسة السلطة ينظِّر لها ويعيد إنتاج إيديولوجيتها ويروّج لخطابها، وإنما الآخر الذي هو خارج إطار تلك السلطة. مع تأكيد أن مؤسسة السلطة لا تشكل المثقف الموالي أو المدمج فقط، بل تمارس تأثيرها حتى على ذاك الذي يواجهها بهذه الدرجة أو تلك. ويمكن للاثنين أن يكونا من الضحايا؛ ذاك الذي اُدمج وامتثل، وذاك الذي جرى إقصاءه. المثقف الضحية، الذي نقصد، هو ضحية أوهامه قبل كل شيء.. ضحية الكذبة التي أطلقها ثم اقتنع بها وصدقها.. إنه ضحية الابتسار والسطحية والاختزال والتشوش في الرؤية.. اختزال ما هو واسع ومركب ومعقد، وتسطيح ما هو عميق ومتعدد الطبقات، ولذا فإن أطناناً مما كان يسمى بأدبيات النضال التي أُنتجت في مراحل المد الراديكالي لم يعد يقربها أحد. لكن هذا المثقف لا يريد الإقرار بأن التوقعات ( توقعاته ) كانت في غير محلها، وكانت التصورات ( تصوراته ) فاسدة وخاطئة. والمتهم دوماً هو السلطة ( السلطات ) الفاعلة. وأحياناً هو؛ الجماهير المتخلفة التي لم تحتضنه وتتبنى أفكاره ومشاريعه بجدية وحتى النهاية، ناهيك عن تلك الذريعة السمجة؛ وجود مؤامرة. ونظرية المؤامرة، في هذا السياق، وبصيغتها التبسيطية الساذجة تحل محل الرؤية الاستراتيجية للقوى الفاعلة في تحالفاتها وصراعاتها في الراهن والمستقبل. فالمثقف، على وفق ذلك التصور ضحية مؤامرة تستهدفه، أو تستهدف الشريحة التي ينتمي إليها. وهو نفسه الذي تجلى هشاشة سلطته التي زعم أنه يمتلكها بعدِّه طليعة للجمهور المسحور بشخصه ورطانة خطابه. إنه ضحية واقع أقوى منه كذلك.. فقد ظهر وكانه ينافس صاحب السلطة ( السياسية ) الذي اضطهده على موقعه. فهو إذ حاول أن يتحول إلى سلطة تتحكم بالواقع فوجئ بسلطات أخرى ظاهرة وخفية، قوى تأثير وتحكم أخرى، تلوي ذراعه وتطيح برهاناته. وتبقى صورة المثقف الضحية تعويضاً بيسيكولوجياً عن صورة المثقف المخذول.. ملجأ بديل للهرب، كما لو أنه يروم محو الصورة الثانية أو تسويغها. لمدة طويلة استهوت صورة المثقف الضحية الجميع.. صار تمثيل المثقف لنفسه معتقلاً، مسجوناً، مقموعاً، منفياً، مقصياً كما لو أنه يمنح هالة من القداسة لهذا المثقف ويجعله مقبولاً جماهيرياً، فيكون موضع ثقتها.. أن تتكلم عن جسدك السجين الذي تعرض للتعذيب، عن جسدك المحبوس في زنزانة، عن جسدك المبعد إلى المنافي، عن جسدك المنكفئ في مكان معزول، الخ. وهناك من لم ينزع رداء الضحية حتى وهو يتبوأ موقعاً في السلطة، جاعلاً منه علامته الفارقة. هذا الشغف بصورة الضحية يعكس نزعة مازوكية، ويعبّر عن شعور مرضي بالاضطهاد. وهو، في النهاية، نوع من الهرب من مواجهة الواقع وعقابيله، واقع الهزائم والخسارات، استدراراً للشفقة.. إن تعزيز صورة الضحية وإعادة إنتاجها يعني الاعتراف، ضمنياً، بالفشل والهزيمة. تستمر صورة المثقف الضحية عبر الأزمنة والأمكنة وتبدل الأحداث والوقائع فيمثل نفسه لا ضحية نظام سياسي أو اجتماعي محدد، وإنما في صورة ضحية أبدية ( أسطورية ) حتى وإن لم يكن هو المثقف المتمرد أبداً..هذه صورة اقتنع بها وارتضاها لنفسه، أي أنها تلك الصورة التي تحقق له رضا وراحة نفسيين. فثمة شريحة من المثقفين لا يرغبون بنزع صورتهم مخذولين وضحايا، وهذا أمر ربما يتجاوز عقدة الشعور بالاضطهاد إلى نوع من المازوكية؛ التلذذ بدور المخذول/ الضحية. فتكون صورته صورة إنسان مهووس، أحياناً، بجلد الذات، إلى جانب إحساس بالدونية حيث يتحول خطابه إلى خطاب رثاء يائس وحزين للذات. هذا المثقف أنتج طوال أكثر من نصف قرن أدب شكوى وبكائيات أكثر مما أنتج أي شكل آخر. والمفارقة أنه يعاني في الوقت نفسه نوعاً من الازدواجية بين شعور طاغ بالضعف والإقصاء وشعور بالنرجسية والانتفاخ، وهي حالة أشبه ما تكون بالعصاب، أو هو عصاب في حقيقة الأمر يستدعي، بالضرورة، الاستلقاء باسترخاء على سرير المحلل النفسي.. ويشير علماء النفس إلى حقيقة أن تأهيل المجرم يكون أحياناً أيسر من تأهيل الضحية. يقتات هذا النمط من المثقفين على إدامة وتعزيز صورة الضحية، لا في داخل النفس فحسب وإنما في محيط المجموعة البشرية التي ينتمون إليها، فيجمعون في تركيبة معقدة كلاً من الرغبات السادية والمازوكية والتي تكون مهرباً من طغيان الشعور بالعجز والخذلان. ويرى ( أريك فروم ) إن هذا الشعور يكون غالباً غير مدرك "تغطيه المشاعر التعويضية عن السمو والكمال". فبين إنكار الاستقلالية الفردية والالتفاف على الشعور بالعجز يستبطن المرء إيديولوجيا الضحية التي تكون بمثابة الضمير التعيس أو السلطة التي يكون هدفها غير المعلن، والرابض في زاوية من منطقة اللاوعي، ربما، هو، مثلما قلنا، إدامة وتعزيز صورة الضحية إلى النهاية.. تلك الصورة التي ستغدو عقبة أكيدة أمام أية فاعلية إيجابية منتجة.. إن تدمير الذات وتدمير العالم هو غاية هذا النمط المهووس بالألم والخراب. ويحدد فروم، أيضاً، هذه الحالة بعبارة؛ "إنني أستطيع أن أهرب من الشعور بعجزي إزاء العالم الذي هو خارجي بتدميره". وأظن أن ثقافة العنف والإرهاب هي من منتجات هذا النمط من المثقفين، يعززونها ويغذونها بالضد من الذات أولاً، وضد العالم بعد ذلك. يُسقط المثقف شعوره كونه ضحية على مجموعته البشرية التي ينتمي إليها، تتلبسه، كما أوضحنا، حالة من مازوكية، سادية مركبة. وهو يستمتع باستمرارية قوافل الشهداء والضحايا. ولنأخذ مثالاً بعض أولئك الذين يتحدثون عن الوضع في العراق على شاشات الفضائيات، وكيف أن علامات الارتياح تبدو على وجوههم وهم يؤكدون أن الحالة الأمنية في البلد متدهورة، وأن هناك ضحايا يتساقطون في كل يوم. ( عنوان برنامج على إحدى الفضائيات الأخبارية العربية الكبيرة قبل أيام عن الوضع العراقي كان "لا نهاية في الأفق" فتأمل ) قد يبدو هذا التخريج غريباً، ولكن، مثلما أعتقد، فهذا البعض يفضِّل أن تكون رؤياه الكارثية صحيحة على أن يقول الواقع شيئاً مختلفاً. فالمهم عندهم ما يعتقدونه، ما يؤمنون به، وليس صور الضحايا. إن أحد أسباب عدم حل القضية الفلسطينية، في ظني، هم هؤلاء الذين يشككون، بكل مبادرة، وبكل حل، وبكل بصيص ضوء في نهاية النفق، لا بل يحاربونها، فقط ليشبعوا غريزة الضحية في دخائلهم. ( من غير أن يعني هذا عدم النظر إلى الحلول أو المبادرات المطروحة، ومعظمها سيئة، بعين فاحصة نقدية ) وهذا ما ينطبق على الوالغين بالثرثرة في القضية العراقية، التي إذا ما تعقدت أكثر، بفضل عوامل كثيرة، ستكون منها نزعات هؤلاء القوم المريضة. وقد حصل، على صعيد الثقافة العراقية والعربية، وإن على استحياء، نوع من المراجعة ومحاولات النقد الذاتي التي طالت المثقف موقعاً ودوراً وفكراً وممارسات. وقد صدمت تقلبات الظروف والأهوال، على مدار العقود الأربعة الأخيرة، بخاصة، المثقفين، فانبرى بعضهم إلى تقريع الذات وجلدها وراح بعض آخر يسعى إلى فهم ما جرى من منظور منهجي وبرؤية متأنية موضوعية، وهؤلاء قلة. فيما ظل بعض ثالث تأخذه العزة بالإثم فلا يرضى أن يقر بالكوارث، وإن تطرق إليها صب جام غضبه على الآخرين، من إمبرياليين وصهاينة وعملاء وخونة ورجعيين ( وقد خف استعمال الاصطلاح الأخير في أدبيات العرب السياسية، تقيةً ربما، بسبب هيمنة أفكار وعصي الإسلام السياسي ). يشير فاضل العزاوي في كتابه ( الروح الحية؛ جيل الستينيات في العراق ) إلى وجود نمطين من اللاعبين هيمنا على الثقافة العربية: "اللاعب الدونكيشوتي الذي كان يقاتل طواحين الهواء، مزهواً بقدرته على تغيير العالم واللاعب الذي كان يعرف أن الأمر يتعلق بلعبة مغشوشة، ولكنه يظل يلعبها حتى النهاية. وحتى إذا افترضنا النية الطيبة والقناعة الفكرية والعاطفة النبيلة وراء تلك الأفعال فإنها لا تقدم لنا أي عزاء، حيث لا شيء في النهاية سوى أكذوبة شاملة وواقع مدجّل". لقد تشكل عربياً، في بقاع شتى من وطننا الكبير من المحيط إلى الخليج، وسط حيوي تواءم وتصالح معه ذلك النمط من المثقف، الذي وصفناه بالمخذول والضحية، على الرغم من أنه يلعن وسطه، في كل يوم، وهذا جزء من اللعبة الملتبسة أيضاً. وخروجه من الوسط ذاك يعني موته مجازاً، فماذا يستطيع أن يفعل في عالم حر، هو الذي تنفس طويلاً دخان عالمه الخانق وتكيفت معه أنسجته وأعضاءه الداخلية وخلايا دماغه، ومن ثم لغته وخطابه؟!!.