بجلطة شعرية.. مات بطل رواية (نافذة العنكبوت)

تحسين كرمياني مثلما كان الفقر يترصده،مثلما كان الحرمان دليله،مذ قذفته اللذة في رحم الحياة كائناً حالماً،كانت آخر قصيدة تتسكع أمامه،عارية،غاوية،ومثلما كان رغيف(تنور الطين)وليمة حياته الدائمة أغوته القصيدة المتراقصة على رصيف شارع منسي لبلدتنا العزيزة جداً(جلبلاء)المتهالكة على مهل،سحبته القصيدة إلى فيء شجرة يابسة،أغصانها مضت حطباً في يوم أسود،هدهدته القصيدة وأقفلت خط الرجوع بوجهه،كائن متعب،ليس بوسعه المشي كثيراً،يداهمه التعرق وصوت اللهاث يسبقه،بيد أنّه يمتلك قدرة نادرة في مطاردة الحروف والكلمات لأيام متتالية،دونما تثقل كاهله بعبء السهر،ذاب لحم جسده بعدما قهرته ظروف البلاد،ولم يعد يمتلك شيئاً بعدما نزف كيانه كاملة عبر قلم الروائي العراقي المغترب(شاكر نوري)في رواية الممنوعة يوم صدورها(نافذة العنكبوت)..!! *** ظلّ(رحمن زنكابادي)أحياناً(رحمن وردة)الأخ الصغير للشاعر والمترجم الكوردي الكبير(جلال زنكابادي)،كان عاشقاً للشعر الحديث،الشعر الخالي من القيود العتيقة،الشعر المتكون من جمل لها دلالات،عبر لوحات تفرضها الضرورة المرحلية،راح سراً يدّون أرق الليالي الطويلة جرّاء مرارة العوز والحرمان والجوع،فوق علب السجائر ومهملات أوراق يجمعها ويقوم بخياطتها ليحصل على(دفيتر) يستوعب ما ينزف،من آلام وأحلام ورغبات وهواجس،فرحاً يطير ما أن تهل شمس الحياة خجولة على البلدة،يبحث عن زملاء يجدونه شاعراً يستحق الثناء،في زمن يتقوقع،يعطيهم(الدفيتر)الضاج بخربشات الليل المموسقة على إيقاعات فرقعات البطن الخاوية،لم يمل أو يكل من زراعة هواجسه النثرية،في زمن كان يضمحل ويتناثر والثقافة تسورها حراب وعيون لا ترحم،رغم جووووووووووووووووعه الدائم،لم يسمح لقلمه الانزلاق إلى آبار الرذيلة،وما أسهل الكلام المباع وسرعة تشكله،لم يخط جملة خارج سياقات صبره وتمرده،في زمن كانت القصيدة(الكاذبة)تغني وتسمن من جوع وتؤمن حياة خالية من الملاحقات والسجون،وصل به العشق الجنوني للشعر،أن يصدر(مجلة)أدبية،يقوم بتجميع الورق،هو المحرر وهو المنضّد وهو الرسّام وهو الموّزع،نسخة واحدة طبعاً،يحملها سراً،خوفاً من عيون رجال الأمن،يأخذها إلى زملاءه،فئة لم تجد في البلدة سوى(أشعار رحمن)متنفساً عن الاختناق الثقافي المؤدلج،كلمات صادمة،لوحات تؤرخ سيرة أيامه،كل ما يقتنصه من مشاهد واقعية،يقولبها وفق درجة استيعابه للكينونة الشعرية،قصائد وفق إيقاع عصف الغضب المتنامي فيه،داوم(رحمن)على إصدار(مجلته)لعشرين عاماً،لم تقف عن الظهور السرّي،رغم أن الوشاية في البلدة كانت مثل شرب الماء،أو كانت الشهيق الذي يحيا به أزلام المرحلة الورقية،داهموه وأخذوا كل ذلك الركام الورقي الحائل اللّون،بقت ستة أشهر تلك(الدفيترات)في دائرة الأمن،لم يفكوا رموزها،مثلما كانوا يفكون رموز الشباب بسياط (الظلاملوجيا)،أعادوا له(مجلاّته)قبل أن تزحف قاطرة الحرب القذرة،التي قصمت ظهر الحضارة الإنسانية الأولى،ليجد(رحمن)نفسه مكرهاً خارج بلدته الأثيرة(جلبلاء)،فهو يحتمل آلام الشعر ونيران الحياة البائسة،بيد أنه لا يحتمل تلك الحياة الرتيبة،في صحاري البلد الكبرى،حيث الرمال تتشكل مثل دهاليز لخنق أحلام الشباب،قرر الهرب،أسوة بكبار أدباء العالم الذين رفضوا الانخراط مع قرابين الساسة،وانزوى ردحاً من الزمن في مكان ما،مكان منسي،في قرية صغيرة نائية،حيث الوشاة عميان،من هناك كان يبعث رسائله(الشوقية) لأصدقائه،ويزودهم بآخر إرهاصاته الشعرية،وكل نهاية شهر تتسلل أمه إلى البلدة وهي تخبئ تلك النسخة من مجلته،داخل روحها خوفاً من(سيطرات التفتيش)،المتواجدة في كل كيلومتر،وفي كل مسلك يصلح للتنقل البشري،كانت أمّه الرائعة بكل مقاييس الأمومة،توصل رسائل الابن اللائذ في مكان أمين إلى زميل موثوق ليقوم هو بدوره بتمريرها على زملاء الثقافة الصادقة..!! *** حلم حياته الكبير لم يتحقق،ذلك الحلم الذي يؤرق كل كاتب في بداية مشواره،حلم إصدار الكتاب الأوّل،رغم أن(رحمن)كانت الكتابة الشعرية عنده(سيلان)،أوراقه في جيب بنطاله،قلم الرصاص بيده،عيناه تطاردان الأشباح الهائمة من حوله،لديه مخطوطات كثيرة تحمل عنوانات مثيرة،عاشقاً للسوريالية كان،لكنه كان صبوراً غير مستعجلاً لنشر ديوان شعري يمنحه راحة بال،ويقنع نفسه إنّه وصل الجبل المؤرق،جبل الشعر النبيل..!! *** مات(رحمن)بطل رواية(نافذة العنكبوت)،مات موتاً شعرياً،هكذا تلهج الألسنة في(جلبلاء)،وجدوه باكراً يتصفح بلدته،يسير بخطوات خجولة،يريد أن(يمتع النظر)لتلك الطالبات وهن ينثرن مراهقتهن إلى جانبي الشارع الرئيس،تلك هي من مفتتحات البوابات الشعرية له،يغزلهن في ذاكرته المتورمة برغبات فوق العادة،كان يمشي والقلم متحفز في يده،يرص الجمل،وتلك الكلمات المتناثرة من أفواه العابرين في الفجر إلى أبواب السماء بحثاً عن أقواتهم،كان يلتقط الضحكات المنفلتة،ضحكات خاوية،خالية من نبرات السعادة في بلاد تمقت الفرح،لأنها من وسوسات الشيطان،أو الفرح كما يزعمون(عبث)،مثلما تلتقط مناقير الطيور في بكرة الصباح حبوب الحنطة والشعير المنفلتة من ثقوب أكياس الفلاّحين وهم ينقلون محاصيلهم الفقيرة،لأن البلاد لها خصومة مزمنة مع الغيوم،كان يمشي ويتعثر بالحفر التي خلّفتها(بمبات)لا ترعوي من حراثة النفوس الحالمة دائماً وأبداً،كان يجمع تلك الكلمات ويغزلها(مسبحات)شعرية ليوم كان على أقصى درجات الصبر على مجيئه،مذ تم طرده من دائرته(موزع بريد)لأنه رفض بكل تواضع أن يتجحفل أو يتعسكر مع زمر الظلام التي أشاعت الفوضى في أزمنة(البعثلوجيا)،ومثلما فعل الشجعان،تنكب قلمه ودسّ رصيداً ممتازاً من أوراق فائضة عن الحاجة وعلب سجائر متنوعة في حقيبته ناسياً أو تاركاً بعض ما يملك من ملابس قديمة..قلت له يوم فراره: [..يا رحمانوف.. إذا بردت أجعل من قصائدك غطاءً بهياً..!! وإذا جاءك القيظ.. أجعل الشعر كلّه..مروحة كونية..!!].. هكذا هم أصحاب المواهب المطمورة في زوايا قصية من بلاد لولا الشعر لما دامت،لما بقت متواجدة متحدية،لكل إشكالات الغزو،منذ فجر السلالات البشرية..!! *** مرّت سنوات الألم والظلام بتثاقل حصدت النفوس وخربت الأذواق،مات من مات وضاع من ضاع وتعوق من تعوق وأسّر من أسّر،عاد(رحمن)من جديد إلى بلدته،من غير مصدر رزق،رفضته دائرته،ولم يجد سوى(جمبراً)أمام باب مرآب(جلبلاء)واقفاً مذ يهل الفجر وحتى منتصف الظهيرة،عين تبيع وعين تطارد الشعر،يكتب ويدس في جيب معطفه قصائده،ورافقته موهبة أخرى،الجانب الآخر من الشعر،موهبة الرسم ،في لوحاته يبدو الألم واضحاً،المكابدة والتفاعل المتواصل من أجل البقاء،يرسم تخطيطات بقلم الرصاص،لناس وجد الشعر الحالي لا يستوعب آلامهم(السيزيفيّة)..!!
*** مات(رحمن)وهو يترك زوجة تقاسمت معه شخصية البطل في رواية(نافذة العنكبوت)وحفنة مجاميع من القصائد،ورواية واحدة وقصص قصيرة ولوحات فنّية وحوارات أجراها مع ناس من البلدة،ومجلاته وعشرات المقطوعات الشعرية التي نثرها على صفحات الصحف والمجلات التي كانت مخصصة للأقلام الجديدة من غير شكوى أو تذمر،وبعض الترجمات من الكوردية إلى العربية..!! *** ربما يجد البعض في هذه الكلمات ما هو مخالف للواقع أو خروج عن مألوف العادة،كونني كتبت عن شاعرٍ غير معروف،سأقول قولي هذا،لم أجد من يحمل حرصه ومثابرته وعشقه للشعر،ولم ينقصه سوى القراءة الجادة،لتهذيب كتاباته،أو تشذيبها من الصور المرعبة،ومن يدري ربما سيكون الزمن القادم زمن الشعر المرعب،هكذا استقبلوا(أوراق العشب)يومها،والتاريخ الأدبي حافل بكل أنواع الإستهجانات التي استقبلت كتابات فوق العادة أو خارج نطاق الأذواق لأدباء تسيدوا فيما بعد الرفوف العالية من الثقافة الإنسانية ،فالزمن غالباً ما يخبئ النتائج الحاسمة،والشعراء الذين صاروا كباراً ماتوا صغاراً لأن(الأرض لم تعد تحتمل طيبتهم)كما ذهب(نيتشة)في وصفهم..!! *** من رأى(رحمن)أو أستشرف حياته،لابد أنه يجهر بالقول،(يا له من شخصية روائية من الطراز النادر)،شكله ومكابداته وسيرة حياته،كلها فقرات أستغلها الروائي(شاكر نوري)في رواية(نافذة العنكبوت)الرواية التي قالت كل شيء جرى في البلاد بعين ناقدة وساخرة،كان بطل الرواية(رحمن) وزوجته(......)كائنان جمعتهما القسمة،كان زواجهما،أو بالأحرى ليلة زواجهما ليلة مثيرة،أستغلها(شاكر نوري)وأضاف إليها الكثير من أمراض الواقع لتأتي رواية(صادمة)لم ترتح لها نفوس السلطة،لقد تنبأ الروائي بموت بطل روايته مبكراً،تاركاً الزوجة أسيرة تقوقع قبل أن تغدو فريسة لخيوط العناكب وهي تنهال لتتحد مع أغوارها،لقد مات(رحمن)باكراً لتأتي نبوءة(شاكر نوري)مدهشة،وكان الفارق الزمني بين موته الروائي وموته الحياتي لم تتعد عشر سنوات..!! *** مات(رحمن)ويموت آخرون،تاركين أحلامهم،عبر أوراق ربما سيبعثرها الزمن،تلك الأوراق فيها أشياء نافعة في كثير من الأحايين،لأنها تحمل البصمات الواقعية للأيّام،وتطلعات بريئة،لا تتعدى أحلام الفقراء ومشاعر البؤساء،والرغبات الخجولة لكل حالم في جوفه الصدق بكل تجليّاته..!! tahseen.garmyani@hotmail.com --------------------------------------------------------------------------------

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق