في كل نص من كتابه الساحر ( أفواه الزمن/ الصادر عن دار المدى/ دمشق 2007 بترجمة صالح علماني ) يبدع إدواردو غاليانو ترنيمة شجية أخرى. يطلق نغمة مختلفة. يصنع تنويعات للحنه الإبداعي كما لو أنه يترصد إيقاع الوجود، يتعقب أثره في تعرجات هذا المسيل الغامض الذي نسميه الزمن. نحن صناعة الزمن "من زمن نحن" هذا ما يقوله لنا، مشيراً إلى حقيقة أن آثار رحلتنا في الحياة ستُمحى بفعل رياحه ( أي الزمن )، تلك الرحلة التي تنقضي ببساطة شديدة بين خفقتين بالأذرع؛ تهويمة ذراعيّ الطفل المولود لتوّه، وحركة ذراعيّ الشيخ الذي يحتضر.
فكلاهما يبدو وكأنه ينوي معانقة أحد ما. فغاليانو يعرف أن الزمن هو صانع التراجيديا البشرية، فالموت والفناء ليسا سوى المقولتين الحاسمتين للزمن، في مقابل امتزاج انبهار الإنسان إزاء الجميل بشعور بالأسى لأن هذا الجميل، بفعل الزمن، ماضٍ إلى الزوال. وفي هذا الخضم، من ثم، يضعنا المؤلف أمام نظرة الطحالب الزرقاء التي هي جداتنا ـ بحسب منظور داروين ـ وهي التي أبت أن تتطور، مثلما فعلت قريناتها في طفولة العالم ـ تنظر إلى عالمنا، كما صار، من عالمها القديم، لكن، وكما يختتم غاليانو نصه: "لا أحد يعرف رأيها في ذلك".
والزمن هو ملعبة الذاكرة، أو العكس.. الذاكرة التي توقف الزمن نصف قرن ليستمر الأمل حتى وإن كان طافياً على جليد رخو يوشك أن يتفتت.. يغرق شيخ مسن خمسين سنة في وحل منجم مهجور، باحثاً عن الذهب من دون جدوى، فيطلقون عليه في الجوار لقب ( الشبح ).. يقترب منه رجل ويجلس إلى جانبه.. يقول الشيخ/ الشبح:
"ـ زوجتي جميلة جداً.
ويعرض صورة ممزقة الحواف وممحوة.
ـ إنها تنتظرني.. يقول.
ـ إنها في العشرين من عمرها.
منذ نصف قرن وهي في العشرين من عمرها، في مكان ما من العالم".
فيما نجد آخر، اسمه دون فرانثيسكو، هو آكل سنين وأكبر سناً من السلاحف مثلما يصفونه، يستعيد صورة غاربة منذ أمد بعيد، من أعماق النسيان، يحفزّه سؤال يطرحه عليه أحدهم عن حبه الأول، وإذا به يعبر قرناً كاملاً ويحلُّ هناك: "كانت الذاكرة تبحر كزورق بال. كانت الذاكرة تتعثر، تغرق، تضيع. إنه إبحار يمتد إلى أكثر من قرن من الزمان، وكان هناك في مياه الذاكرة الكثير من الضباب. كان دون فرانثيسكو يمضي بحثاً عن المرة الأولى، وجهه مغضن، مشقق بألف تجعيدة... وأخيراً تلعثم دون فرانثيسكو، بما يشبه السر: إيزابيل.
غرس عكازه الخيزراني في الأرض، ونهض عن مقعده مستنداً إلى العكاز،منتصباً مثل ديك، وصاح:
ـ إيزاااااااابيل".
* * *
يبدأ غاليانو كتابه بنص/ قصيدة:
"من زمن نحن.
نحن أقدام الزمن وأفواهه.
وعاجلاً أو آجلاً، مثلما هو معروف، ستمحو رياح الزمن الآثار. عبور اللاشيء. خطوات اللاأحد.. أفواه الزمن تروي الرحلة".
وينهيه ( أي كتابه ) بنص/ قصيدة:
"إنه الأول. عندما تدنو نهاية الليل، يكسر صوت ناشز الصمت. النشاز الذي لا يتعب أبداً يوقظ معلمي الغناء. وقبل الضوء الأول تبدأ كل طيور العالم سيرنادها عند النافذة، محلِّقة فوق الأزهار التي تروقها.. بعضها يغني حباً بالفن، أخرى ترسل أخباراً، أو تروي تقولات ونمائم ودعابات، أو تطلق خطابات، أو تعلن أفراحاً، لكن الجميع، الفنانين، الصحفيين، الثرثارين، اللعوبين، المضجرين، المجانين،، يجتمعون في رطانة واحدة لأوركسترا متكاملة.
هل تعلن الطيور عن انبلاج الصبح؟ أم أنها تصنعه مغنية؟".
وبين ذينك النصين تتلاحق النصوص منتظمة في نسيج مبرقش خلاب بألوانه وأضوائه وأنغامه اللاعبة. ودوماً يستهل غاليانو نصه بعبارة اعتيادية خبرية لكنه ينهيه بعبارة مباغتة، مدهشة، هي خلاصة تعليقه على الحدث، أو ضربة الفرشاة الأخيرة التي تعطي للوحة النص بريقها وبهاءها.
وفي كل نص من نصوص كتابه الذي يفوق عددها المائتين يرمي غاليانو إلى نوع من التجلي والتطهر، متخففاً من الزوائد، واضعاً إيانا في قلب العالم شبه المضاء وشبه المعتم، محيلاً ما هو معرّض للنسيان إلى ما لا يُنسى. فاركاً الصدأ عن المألوف ليضيئه بنور وعي ثاقب، وعي فنان مفكر. تاركاً إيانا في كل مرة في حالة من الانبهار والتفكر، معولاً على ذكائنا في قراءة لاوعي نصوصه حيث الحدود تختفي أحياناً بين الواقعي والمتخيل، بين ما يجرّبه المرء وما يتوهمه.
"كنا في جولة نبيذ، شراب وغناء، مع سانتييان الكلب، وآرياس الشيطان، وأصدقاء آخرين، عندما دعا أحدهم بيتيتي، وكان ميتاً، وجاء بيتيتي لتناول بضع كؤوس معنا.
لم أكن أعرفه من قبل، ولكننا في تلك الظهيرة، بينما نحن نشرب ونغني مع هذا السيد الأكرش، صرنا صديقين. وأخبرني هو بأنه مات لأنه خطر له، على الرغم من فقره المدقع، أن يمرض. داهمته نوبة السكري في عز الليل، ولم يكن لدى مستشفى خوخوي أنسولين".
غاليانو صياد المشاهد الآسرة والصور التي تفجر فينا الحزن والمسرّة. أما مرجعياته فهي مما خبره في حياته. ما رآه وما سمعه من أفواه الناس، وما قرأه في الصحف والمجلات، وفي كتب التاريخ.. نصوصه قصيرة بأشرطتها اللغوية، كثيفة، مشحونة، ذات توتر عالٍ في محمولاتها ودلالاتها.. إنها حكايات الناس كما يتداولونها، يأخذها مادة خام ليحررها في مختبره السردي، إذ يذهب إلى الحدث المألوف لينظر إليه من زاوية مفاجئة، فهو قادر على رؤية المدهش في اليومي والعابر والاعتيادي. ويخرجها نصوصاً ذات قيمة أدبية وجمالية. إنها نصوص سردية بيد أنها تنتمي إلى أفق الشعر أولاً، فغاليانو بارع في التقاط الشعري من أكثر الأماكن التي نظن أنها تفتقر إلى ما هو شعري.
"سبع نساء جلسن في دائرة. ومن بعيد جداً من قريتهن في موموستينانغو، حمل إليهن هومبرتو أكابال بعض الأوراق الجافة، جمعها هو من تحت شجرة أرز.
كل واحدة من النساء سحقت ورقة، برفق، عند أذنها، وهكذا انفتحت لهن ذاكرة الشجرة.
إحداهن سمعت الريح تهب في أذنها.
أخرى، سمعت الأغصان تتأرجح برفق.
أخرى، خفق أجنحة عصافير.
وقالت أخرى إن المطر يهطل في أذنها.
وأخرى سمعت وقع خطوات بهيمة تركض.
أخرى صدى أصوات.
وأخرى حفيف خطوات بطيء".
يستل غاليانو معظم شخصيات ومشاهد وأحداث نصوصه من بيئته.. بيئته التي تمتد على طول مساحة قارة أميركا اللاتينية.. تلك الأرض التي ألهمت الساردين السحرة من أمثال بورخس وكاربنتير وماركيز وإيزابيل الليندي وماريو بارغاس يوسا.. تلك الأرض بتنوعها المذهل،وغرابتها وحيويتها وأسرارها. بتضاريسها وحيواناتها ونباتاتها.. بفقرائها وأغنيائها وأبطالها وعشاقها ومجانينها وقتلتها وغانياتها وأحلامها الواسعة، وفتنتها التي لا تضاهى. غير أنه يغادر أرضه وبيئته اللاتينية أيضاً، مرات ومرات، ليسوح في أركان العالم المترامي.
و لا تخلو نصوصه من روح الدعابة غالباً، ومن السخرية التي تكون مرّة أحياناً. وإذا كان صحيحاً أنه لا يتحاشى السياسة، فإنه لا ينغمس فيها مباشرة بل يوحي بتداعياتها وانعكاساتها على حياة البشر، وإذ ذاك يكون ساخراً حقاً.
الفلاحون الذين سألوا: "لماذا يوجد أناس كثيرون بلا أرض، بالرغم من وجود أراض كثيرة بلا ناس؟" ردوا عليهم بالرصاص.. هؤلاء الفلاحون الذين هم بلا أرض اقتحموا غاضبين مزرعة تملكها شركة أجنبية "ولم يتركوا نبتة صويا اصطناعية واحدة منتصبة.. المزرعة كانت تسمى: لا تلمسني".
وأخيراً يشكّل مجموع نصوص غاليانو لوحة فسيفساء مرسومة ببراعة، تمنحنا فكرة عميقة عن فحوى الزمن ـ شكله الرجراج ومعناه الزلق ووجوهه المتقلبة ـ وعن موقعنا، نحن البشر، وتحولاتنا، قوتنا وضعفنا، مجدنا ومأساتنا، في اللوحة تلك. فما هذا الكتاب إلاّ شذرات مبعثرة، شظايا عالمنا وحياتنا ووجودنا،بمستطاعنا لملمتها كيفما شئنا لنمسك في النهاية بصورة ما، تصورٍ ما، هي صورة كينونتنا وتصورنا عنها. فـ ( أفواه الزمن ) هو من ذلك النوع من الكتب الذي يعمّق رؤيتنا لأنفسنا ووجودنا.. يُحدث تبدلاً، بهذه الدرجة أو تلك، فينا. بحيث أننا لن نعود بعد قراءتنا له مثلما كنا قبل تلك القراءة.
saad.m.rhim@hotmail.com
أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.
ردحذف