بعد رحيله..جائزة محي الدين زنكنة للمسرح / تحسين كرمياني

يوم 4آب كان يوماً حافلاً بالوداع،مع تصاعد موجات الحر،وتوارد أخبار موت أدباء العالم من كل حدب وصوب،كنّا أنا و(سعد محمد رحيم)في طريقنا إلى(محي الدين زنكنة)،كنت أقود سيارتي بلهفة غريبة،شيء سكنني منذ أكثر من ثلاثة أشهر،مذ أتصل بي مرتين يسأل عني،ويريدني أن أزوره كما دأبت سابقاً،حتى أنني قلت لـ(سعد)أشعر أن المسافة التي تفصلنا عن(السليمانية)قد تقلصت أم أنني أقود مركبتي بجنون،قال(سعد)أخذنا الحديث عن الرواية حتى نسينا الوقت..!!،ما أن دخلنا مؤسسة(سردم)لمحته يودع السليمانية بوقع خطوات غاضبة،لا يعطي المظاهر إلاّ عين ملؤها الأسف،محتجاً على حياة تجردت من الثقافة،دخل وعانقنا،كنت مشدوداً لحرارة(سعد)وهو يقبل رأسه،بعين دامعة،وقلب توقف إكراماً لقامته،في غرفة التحرير،كان الزميل(نوزاد)الذي هاتفته غائباً هذه المرة،مشغولاً بأمور حياته التي لن تنتهي،بدأ(أبو آزاد)بروعة الخجل الذي يسكنه يسرد همومه الشخصية،يعاني من متاعب(عينية)،متذمراً يبحث عن منقذ
يمنحه(فيزا)إلى(أسبانيا)بعدما أقرت لجنة طبية في(أربيل)ضرورة سفره لمعالجة التلف الحاصل في شبكية عينيه، (فيزا)تعطى لجرذان الحياة وفئرانها،تعطى لكل(قوّاد وعاهرة)لكل(حمار)تسيس في ظلمة الحياة وخلف كواليسها،ولا تعطى لأديب نذر حياته من أجل الكلمة الشريفة،من أجل أن تبقى البلاد صاحية لا تهتز عند النوائب،راح يحكي لنا عذابه الهادئ،ووعود أصحاب النفوذ،كلهم يعرضون خدمات لسانية لا تسمن من جوع،كلهم فشل من أجل الحصول على(فيزا)له،في الوقت الذي يمسكون بمصائر الناس وأرزاقهم،خرجنا إلى حياة تلهث صوب السراب،ناس بلا رحمة يتقاطعون،سوّاق مركبات يقودون بلا(فن..ذوق..أخلاق)،لا أحد يعرف هذا الرجل الوديع أي محيطات أفكار تسكن في رأسه،أي سفن مسرحية هيأ لإنقاذ المجتمع من الغرق، رغم مرضه ذهب يزور صديق أديب أصابه الشلل(أبن الملا عبد الكريم المدرس)الذي لم يحضرني من هول الحزن أسمه،عاد ورافقناه إلى المنزل،عبر سرداب منزله انتقلنا إلى غرفة الضيوف،كان الزقاق(مفلشاً)تحت الصيانة،بحيث أصبح باب المنزل معلقاً في الهواء، تحدث عن سر تعلقه(بهاملت)وعشقه الشديد للمسرحية،حتى تولدت لدي فكرة الكتابة عن(هاملت في مسرح محي الدين زنكنة)،لا أعرف هل بوسعي تكملة هذا المشروع أم أطرح الفكرة على نقّاد المسرح للكتابة عن هذا الفاصل الحيوي في مسرحياته،سأل عن(ديالى)،عن أدباء(ديالى)عن(بغداد)وعن أدباءها،متذمراً غير راضياً من أوضاعنا،متحسراً عن تلك الأيام التي كانت مليئة باللقاءات والمهرجانات الأدبية،رفع كتاب(هاملت)قال:كل عام أعيد قراءته..!!ثم عرض علينا تماثيل برونزية لـ(مكسيم غركي وغوغول)قال:اقتنيتها من روسيا..!!،تحدث عن ستالين،من خلال الفلم الذي رآه،قال:أشعر بكثير من الأرق،منعني الطبيب من القراءة وحتى رؤية التلفاز،أية حياة نعيش..!!،وعند الغداء كنت صائماً(يوم الاثنين)أديت صلاتي والتقطت صوراً للمأدبة التي كانت ممدودة بينه وبين(سعد)،قال ضاحكاً:سنطلب من(كاك تحسين)شبراً في الجنة..!!بعد نصف ساعة أخذنا إلى سرداب بيته،وجدنا مكتبة تحوي مئات الكتب والمجلدات،طاولات منتظمة،كومبيوتر،معرض يحوي أكثر من مئة كاسيت مسجل،ورف عليه أحدث الإصدارات التي أصدرتها المطابع من مؤلفاته،فتح لنا دولاب خشبي مغلف بمشمع(مزنجر)عرض علينا(عشرات الكيلو غرامات)من الورق المرزوم بدقة،قال:هذه كلها مشاريع أدبية وأفكار متراكمة منذ بداية عهدي بالكتابة..!!،قال أيضاً:طلب مني(فخري كريم)إعادة طبع مؤلفاتي..!!،مكان عمله يشبه أمكنة كبار الكتاب الروس،حيث الهدوء المطلوب والنظام الصارم،لم يبحث(أبو آزاد)عن الشهرة في يوماً ما،بل كانت الشهرة تتصيده،تراقبه،تبحث عنه،تمطره بالجوائز،قال أيضاً:هناك مشروع تواقيع ستنشر على المنظمات الإنسانية من أجل الحصول عل(فيزا)لي،من بين الموقعين ذكر(كاظم حبيب)وآخرون..!!لم أحفظ أسماءهم يا لسوء حظي.

***

مات(محي الدين زنكة)،تاركاً حسرة كبيرة في قلبه،حسرة عدم إعطاءه(فيزا)كي يعالج شبكية عينية.

السؤال المطروح..

أمام الحكومة العراقية..

أمام حكومة إقليم(كوردستان)..

بعد العجز الذي حصل لتلبية رغبة كاتب بوزن(محي الدين زنكنة)..هل من الممكن تخليده في جائزة سنوية عالمية في المسرح أسوة ببلدان العالم المتحضرة..؟؟

فهو يستحق أكثر من هذا..

يستحق أن يخلد أسمه بإطلاقه على أحدى الشوارع أيضاً..!!

يستحق تصنيف مؤلفاته المسرحية والروائية والقصصية ضمن مقررات الدراسة الجامعية..!!

يستحق جناحاً خاصاً في المتحف توضع فيه مؤلفاته وأوراقه ومقتنياته أسوة بأدباء العالم المشاهير..!!

***

تغمده الله برحمته..وأسكنه فسيح جناته..!!