برحيل الكاتب المسرحي،والقصصي،والروائي:(محيي الدين زنكنة 1940– 2010) يكون الأدب العراقي قد فقد علما مبرّزا من أعلام الكتابة السردية الحديثة،وكان قد عمل جاهدا منذ منتصف الخمسينات من القرن العشرين وحتى يوم وفاته في 21/8/2010 في مدينة السليمانية على إعلاء كلمة(الإنسان)،والذود عن وجوده حين قارع (الظلم)،و(القهر) بخطابه الأدبي الذي لا يعرف المهادنة،والنفاق.
وُلد(محيي الدين زنكنة) في مدينة كركوك حي (شاطرلو) في العام 1940،وعاش طفولته،وشبابه في تلك المدينة الجميلة، ولمّا أنهى دراسته الإعدادية قُبل في قسم اللغة العربية كلية الآداب جامعة بغداد ليتخرج في 1962م،ويُعين في العام1964م مدرسا لّلغة العربية في محافظة ديالى، ومنذ ذلك التاريخ وحتى أواسط العام 2006 لم يغادر زنكنة مدينة بعقوبة, صار والمدينة هذه توأمين لا يفترقان،وعلامة دالة من معالم حياتها الثقافيّة.ظل(محيي الدين زنكنة) في سنواته(البعقوبيّة) وفيّا للكتابة،والكتاب لا يكاد يخرج من داره إلا لعمل مهم، كان شغله الأول الكتابة، ففي داره تلك الواقعة في الطرف الغربي من المدينة كان يسهر ليله قارئا،وكاتبا حتى قُيض له أن ينجز أكثر من خمس وأربعين مسرحية،وأربع روايات، فضلا عن ثلاث مجاميع قصصية،والعشرات من القصص القصيرة ،والمقالات المنشورة.
كانت داره تلك أشبه بصومعة ناسك لا يمارس فيها إلا الكتابة،والقراءة ،والعناية بالكتب،فقد كان الرجل عاشقا وَلِها للكتاب،وكانت مكتبته عصيّة على الكثير من أصدقائه، وأدباء ديالى،كنت أزوره في صباح كل خميس لاسيّما في العامين (2004)و(2005) لأجد عنده الكثير من الجديد المفيد،من الكتب،والمجلات،وفي واحدة من تلك الزيارات عرضت عليه أن ازور المكتبة ،وأن أشرب الشاي فيها،كان ذلك طلبا مستحيلا فيما أحسب،لكنّ الاستحالة فيه تبدّدت في ابتسامة (زنكنة) الوادعة النقية.
كانت المكتبة تشغل غرفة كاملة في الطبقة الثانية من البيت،فضلا عن ممرّ طويل فيها،وقد هالني ما فيها من المصادر،والمراجع التي تبحث في مختلف العلوم،والفنون ثم جلب انتباهي شيء آخر:(ملفات) داكنة اللون،كانت بمجملها تحتوي على عشرات القصص،والمسرحيات التي كان(زنكنة) قد انتهى من كتابتها لكنّها لم تأخذ دورها في النشر،ثمّ لفت انتباهي بين تلك الملفات دفتران متميزان قديمان تبين لي في لحظتها أنهما يضمان بواكير قصصه التي كتبها في سن الدراسة المتوسطة ،واذكر أنني وقفت عندهما مليّا دون أن أنبس ببنت شفة، لكن الرجل اللمّاح فهم غايتي فقد أعارني الدفترين، فوجدت فيهما قصصا تبوح بنضج شاب أراد أن يكون قاصّا، فكان أن حرّرت القصص،وصنعت لها مقدمة،وخاتمة،وقدمتها في العام (2006) الى دار سردم للنشر في السليمانية فظهرت الى الوجود في العام 2007 كتابا بعنوان(بواكير محيي الدين زنكنة القصصية).
كان(محيي الدين زنكنة) في سنواته(البعقوبية) يعيش عزلة مبدعة لم تمنعه من الاختلاط بأدباء المحافظة،ومثقفيها،فقد كانت علاقاته الأدبية،والاجتماعية تمتد الى العشرات منهم،فضلا عن أنه كان عضوا في اتحاد أدباء المحافظة حتى خروجه منها الى السليمانية في العام 2006،لكنه - وهذا ما لا أستطيع نكرانه- كان محيرا للكثيرين ممن كانوا لا يفهمونه لاسيما أولئك الذين لم يقرؤا ما كتب،أو كانوا على مبعدة من أفكاره ،وتصوراته الأدبية، والإنسانية. وكانت جامعة ديالى قد كرمت محيي الدين زنكنة ثلاث مرات:
الأولى: حينما أقرّت تدريس مسرحيته الشهيرة(رؤيا الملك) على طلبة المرحلة الرابعة،في قسم اللغة العربية كلية التربية في العام الدراسي الجامعي (1999- 2000) ، فقد عاش الطلبة عاما دراسيّا مع مادة جديدة تمور بين المسرح، والحياة، بين الماضي، والحاضر... ولم يكن من السهولة حثهم لقراءة المسرحيّة، وتقبلها؛ فقد تعودوا نمطا خاصّا من المناهج، والأفكار، وكان الأدب الحديث بكل نماذجه بعيدا عن قراءاتهم، وعناياتهم،لكنهم على الرغم من ذلك تفاعلوا مع المسرحية،ودرسها الجديد.
الثانية :حين نظّمت له ندوة أدبية عنونها:(محيي الدين زنكنة أديبا) فحين شارفت السنة الدراسية(1999- 2000) على الانتهاء عقد القسم ندوة عن أدب محيي الدين زنكنة حضرها الطلبة، وجمع من أدباء محافظة (ديالى)،والكاتب نفسه ألقيت فيها الدراسات الآتية:
1- مركزية الرؤية في رؤيا الملك للروائي سعد محمد رحيم.
2- متغيرات معادلة الرؤيا في مسرحية رؤيا الملك للناقد المسرحي صباح الأنباري
3- رؤيا الملك دراسة تأويلية للدكتور وليد شاكر نعاس.
4- شعرية الخطاب المسرحي: رؤيا الملك مثالا للدكتور فاضل التميمي.
ثم جاء دور الكاتب محيي الدين زنكنة الذي ألقى موجزا عن تجربته المسرحية، وآفاق تقبلها، ونقدها، ثم حاوره الطلبة في المسرحيّة، وفي قضايا أخرى تخص إبداعه الروائي، والمسرحي... وختمت الندوة بتسليم زنكنة شهادة جامعية توثّق الاحتفاء به و(رؤيا الملك).
الثالثة:حين سجلت طالبة الماجستير خولة إبراهيم احمد رسالتها عن الصراع في مسرحياته،فكانت مناسبة لتكريم أديب سجل انتشارا عربيا وعالميا ،وقد أجيزت الرسالة فيما بعد لتكون مع عشرات الرسائل التي كُتبت عنه مصدرا من مصادر درس (محيي الدين زنكنة) التي يحتاجها الباحثون في دراسة تاريخ المسرح العراقي الحديث،وابرز مهيمناته الموضوعية .
(محيي الدين زنكنة) بطبعه الإنساني البسيط لم يكن يعبأ بأي تكريم ،ذلك طبع جُبل عليه منذ نعومة أدبه، فقد كان مأخوذا بفكرة الإنسان الذي يعيش داخل إنسانيته المجردة من هوس السلطة في أي زمان ومكان،وكان كثيرا ما يعلن عن تواضع نتاجه الأدبي حين يهمّ أحد الأدباء في إجراء لقاء صحفي معه،وقد ظل(زنكنة) وفيّا لهذه الفكرة حتى اليوم الأخير من حياته ؛ ولهذا كانت اللقاءات الصحفية معه نادرة جدا ،وقد لا أبالغ حين أقول: انه يمقت الشهرة،وان كانت حقا للأديب المبدع قبل أن تكون لغيره!،وهو في موقفه هذا كان يحيّر حساده قبل أن يحير معجبيه .
لقد كان (محيي الدين زنكنة) أديبا كبيرا،لم تشغله في حياته فكرة الحصول على منصب كبير،أو الوصول الى مركز إداري مؤثر، كان كلّ همه ينصبّ في الكتابة من اجل الإنسان،والوفاء لمبادئه التي ظل أمينا لها حتى نَفَسَه الأخير، وهي مبادئ لا تغادر إنسانية الإنسان.