الهوية ومجتمع المعرفة : حسين علي الحمداني


كثيرا ما تطرح إشكالية العلاقة بين الهوية الوطنية والقومية ومجتمع المعلومات العالمي وتكون هذه الإشكالية تعزف على الهوية القومية تارة وعلى الهوية الإسلامية تارة أخرى , ومبعث ذلك أسباب , الأول هو أن الهوية في مجتمعاتنا لم تحلّ بعد بالقدر الكافي معضلة العلاقة بين الأصالة والحداثة ولا تزال في صدام مع التاريخ ومع الآخر. والسبب الثاني هو اختراق هوية هذا المجتمع من طرف قوى العولمة وآلياتها بما فيها آليات الاقتصاد والسوق وتدفق المعلومات بسهولة ويسر عبر الشبكة العنكبوتية . فهل نحن الأمة الوحيدة المهددة بهويتها ؟؟ لننظر إلى التجربتين اليابانية والصينية. هذان المجتمعان يُعدّان من روّاد الثقافة الرقمية ومجتمع
المعلومات ومن القوى الفاعلة في التقدم التكنولوجي للثورة الاتصالية. ولكن هذا التطور لم يؤثّر في مقومات الهوية اليابانية أو الصينية ولم يحصل الانفصال بين ذاكرة التراث وعناصر الشخصية من ناحية ومتطلبات مجتمع المعرفة والانفتاح على شبكة المعلومات من ناحية أخرى. هناك إذن ضرورة معرفية لمساءلة الخصوصية الثقافية لعالمنا العربي في عصر المعلومات، والمعروف ان الهوية الثقافية هي كائن جماعي حيّ يتغير ويتحوّل أوّلا من الداخل بفعل تغيّر المرجعيات القيمية، وثانيا من الخارج بتأثير تطور علاقات الفرد والمجموعة مع التحوّلات الكونية. ونحن كمجتمع عربي لم يصبنا تحولا من الداخل باستثناء ما حصل في العراق من تغيرات جذرية فأصبح الإنسان العراقي بشكل عام والمثقف بشكل خاص أصبح كيان حركي قابل للتشكل حسب تجربة الحاضر وتطلعات المستقبل. والذي يجعله يتحرّك هو قيم ثابتة مرتبطة بالجدلية التاريخية بين قيم التراث ورؤية المستقبل. هذه القيم لها اتصال تكويني بالهوية الثقافية تتحقق حسب العصور والظروف، ومن أهمّها التوازن بين البعدين المادي والروحي، ومبدأ الاجتهاد والانفتاح. هي إذن هوية شاملة وجامعة لمرجعيات مختلفة ومتنوعة تكون حصيلة لتجارب إنسانية عبر عصور التاريخ. وهذه لا تتناقض مع مقومات الحداثة وتطور منظومة الفكر وفق مخرجات الحضارة الإنسانية , وقد قرأنا كثيرا عن غزو ثقافي يجتاح عالمنا العربي دون أن نفكر بان أمم أخرى يجتاحها في ذات الوقت , وعلينا أن نستذكر كيف احتفظنا بهويتنا وخصوصيتنا في حقب تاريخية ماضية , وربما تشكل بعض الدعوات التي تحاول ان تقودنا إلى مناطق العنف التاريخي تحت شعارات حماية الذات والهوية ومعاداة الآخر ورفض تقنياته وعلومه ومنجزاته. وهنالك من يشجع على التعامل مع هذا ايجابيا , وبين هذين الموقفين المتجاذبين للهوية في عصر المعلومات والعولمة، هناك طريق ثالث، طريق الحداثة المدنية الذي يربط جدليا بين الهوية والمعرفة والحرية في إطار المنظومة الديمقراطية التي تؤسس الذات على فكرة الانفتاح والتسامح والاعتراف بالاختلاف والتنوع، وفي إطار منظومة تربوية حداثية تهدف إلى بناء المواطنة المدنية المشاركة في مؤسسات المجتمع والمسؤولة بالدرجة الأولى على تطوير معارفه. واستثمار التكنولوجيا الرقمية و إيجاد سبل الانخراط المدروس في هذه الثورة التي غيرت تضاريس العالم وجعلت منه قرية كونية تهدّد الثقافات إمّا بالذوبان أو التقوقع إذا لم تحتل موقعها في اقتصاد المعرفة وثورة الإنتاج الرقمي فالمعروف اليوم أن 12 % من سكان العالم يسيطرون على أكثر من 90 % من حجم التجارة العالمية (أمريكا، اليابان، أوروبا)، اليابان وحدها تسيطر على 44 % من صادرات العالم، هذا الواقع هو ترجمة للثورة المعلوماتية والاتصالية والتفجّر المعرفي. وهذا يعني إن الهوية التقليدية غير قادرة على مواجهة هذا الواقع، كما أن الدولة التقليدية غير قادرة على الصمود أمام العولمة. وحين نبحث عن أسباب هذا التفوق خاصة في الدول الصناعية نجد انه قائم على الإنسان العارف , إذن المعادلة الآن بين القوة والمعرفة فلم يعد لعدد السكان ووفرة الموارد والجيوش تأثير يذكر في تحديد مصادر القوة الحقيقية. العقول المبدعة والمتحكمة في تقنيات المعلومات والاتصال هي التي تؤثر اليوم في توجهات السياسة والاقتصاد ومراكز القرار والنفوذ. من هنا نجد إن العلاقة الجدلية بين الهوية ومجتمع المعلومات. هي علاقة تأثير عميق قد يكون سلبيا أو ايجابيا، حسب قدرة الثقافة على إدماج الهوية في حركة التاريخ من ناحية، وقدرة العقل السياسي المضطلع بمسؤولية الحكم على بلورة خيارات حداثية في منظومة الفكر والسلوك والمؤسسات. فالمفصل الحقيقي بين الهوية والمعلوماتية هو الثقافة الديمقراطية بالمعنى المدني الذي يرادف الحداثة والمواطَنة الحرّة . ونحن في العراق وفي مرحلة ما بعد انتهاء حقبة الشمولية في كافة المجالات لنا هوية جامعة ودرجات متفاوتة في تكييف هذه الهوية مع مستجدّات العصر، وعلينا أن ندرك بأن الهوية القادرة على الصمود والإضافة في مجتمع المعلومات هي الهوية النقدية المتشبعة بثوابتها الثقافية والوطنية.